لمدينة بورسعيد المصرية خصوصية تنبع من تاريخها الحافل بملاحم من المقاومة والتصدي لكل عدوان تعرضت له مصر في تاريخها المعاصر، إضافة إلى تنوع ثقافي مستمد من طبيعة سكانية اكتسبتها المدينة من اشرافها على المدخل الشمالي لأهم ممر ملاحي بالعالم ما حدا بالكاتب الانجليزي روديارد كبلينج إلى قول عبارته الشهيرة "إذا أردتم ملاقاة شخص ما عرفتموه وهو دائم السفر، فهناك مكانان على الكرة الأرضية يتيحان لكم ذلك، حيث عليكم الجلوس وانتظار وصوله عاجلا أو آجلا وهما: موانئ لندن وبورسعيد".. إلا أن هذه الخصوصية فيما يبدو قد استعصت على فهم النظام الجديد الحاكم في مصر حاليًّا ما دفع بأهالي المدينة إلى الدخول في عصيان مدني ما زال قائما حتى كتابة هذه السطور. فقد خطت بورسعيد صفحات في تاريخ مصر المقاوم بدءا من الاستعمار البريطاني الذي رغم دخوله مصر عن طريقها إلا أن المدينة التي توصف ب (الباسلة) كانت أحد مواطن مقاومة الاحتلال حتى شهدت رحيل آخر جندي. كما سجلت المقاومة الشعبية في بورسعيد ملحمة تاريخية في صمودها بمواجهة العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر عام 1956 ردا على تأميم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لقناة السويس. وبعد أيام قليلة من نكسة 1967 سجلت بورسعيد أولى عمليات رد الاعتبار من خلال معركة رأس العش عندما حاولت المدرعات الإسرائيلية احتلال بورفؤاد لكن قوة من الصاعقة المصرية بالأسلحة الخفيفة نجحت في صد الاعتداء الإسرائيلي. وبعد 4 أشهر من النكسة كانت سواحل بورسعيد شاهدا على يوم آخر من الكرامة حينما تمكنت زوارق البحرية المصرية من إغراق المدمرة البحرية الإسرائيلية "إيلات" حيث دخلت الأخيرة المياه المصرية في إجراء كانت الغطرسة هي هدفه الأول. وفي حرب أكتوبر كانت بورسعيد مثلها مثل مدن القناة منصة الهجوم لتحرير سيناء وشهدت واحدة من أشد المعارك شراسة بين الدفاع الجوي المصري والمقاتلات الإسرائيلية. وإضافة إلى تاريخ بورسعيد مع المقاومة تشكل المدينة ساحة للتنوع الثقافي حيث إنها منذ انشائها مع حفر قناة السويس اجتذبت العديد من الجنسيات والأديان خصوصا من حوض البحر المتوسط بجانب مصريين من محافظات مختلفة تعايشوا في تسامح ولا يفصل بين حي العرب وحي الإفرنج اللذين يحتفظان بهذه التسمية حتى الآن إلا امتار معدودة. وحينما استعصت هذه الخصوصية على فهم النظام الحاكم في مصر الان تحول هذا الاستعصاء إلى عصيان أعلنته المدينة. فتعامل النظام مع الأزمة التي تصاعدت بعد الحكم في قضية مجزرة استاد بورسعيد لم يكن فيه جنوح نحو الاحتواء بل إلى مزيد من التفجير. فبداية، تجاهل النظام مطالب الأهالي بالتحقيق في القتلى الذين تساقطوا خلال الاحتجاجات التي شهدتها المدينة أو خلال تشييع جنازات قتلى هذه الاحتجاجات بل فرض في هذه الظروف حالة طوارئ وحظرا للتجول ذاب وسط الاحتقان كما وضع الأهالي في ظل هذا الظرف وجها لوجه أمام الجيش إلا أن الأخير بدا وانه متفهم لخصوصية الظرف والمكان حيث تجنب أي صدام. ومن ثم اتخذ النظام قرارا بإعادة المنطقة الحرة للمدينة ووعد بتخصيص عوائد من قناة السويس لها ظنا منه انها مكافأة وترضية في خطوة رفضها أهالي المدينة مطالبين بالتحقيق والقصاص. واذا كان النظام المصري قد خبر واختبر ما أدى إليه أسلوبه في التعامل مع الموقف في بورسعيد واغفاله لخصوصيتها التاريخية والحضارية فهل يستطيع تدارك الموقف قبل أن تكون المدينة كرة ثلج تزداد حجماً كلما تسارعت في التدحرج. Comment *