تبنى أغلب مفكري الإسلام السياسي فكرة الخلافة كنمط حكم لابد منه وأظهروا فكرة الخلافة على أنها مما لايمكن إنكاره من الدين ، وأخذوا في تفنيد دعاوى الوطنية والقومية بل ووصفها بدعاوى الجاهلية بل وأحالوا الإسلام إلى وطن وجنسية تنافى بل وتصارع كافة الانتماءات بكل صورها . وفى الحقيقة ..لا تناقض بين الإسلام وبين الوطن بمكوناته الأساسية الأرض.. الشعب.. السلطة والفعل النبوي يؤيد ذلك بكل وضوح فعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حدد حدود المدينة ( الأرض) فأرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بعض أصحابه أن يبنوا أعلاماً على حدود حرم المدينة: بين لاميتها شرقاً وغرباً، وبين جبل (ثور) في الشمال وجبل (عير) في الجنوب، ووادي (العقيق) داخل الحرم. وحدد مكوناتها البشرية(الشعب) في تعاقده الشهير المسمى بوثيقة المدينة والمكون من اليهود والقبائل العربية والمسلمين وبقى النبي رأس (السلطة)والتي مارسها بضوابط الشورى وإقامة العدل والأمن والحفاظ على حدود الدولة والتي انتقلت فيما بعد لخلفائه الراشدين . فمكونات الدولة الحديثة توفرت في عهد النبي ومن حكم بعده ..لعل هذه الممارسة النبوية الشريفة قد غابت عن أولئك الذين ينكرون الوطن بأرضه وشعبه وسلطته، ويبقى السؤال هل غاب ذلك لأنهم جهلوا الفعل النبوي أم أنهم قد تجاهلوا ذلك لصالح رؤية سياسية تريد الهيمنة على المسلمين في أوطانهم ونقل ولائاتهم لصالحهم وصالح فكرتهم ومن ثم لصالح جماعتهم ؟! يستبعد العقل الصحيح فرضية جهلهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وترسيخه لفكرة الوطن، على الأقل في مستوياتهم الفكرية والتنظيمية الأعلى فلا تبقى إلا الفرضية الثانية وهى تجاهلهم للفعل النبوي لصالح مأرب سياسي ، فتم استخدام فكرة الخلافة كوسيلة لإلهاب عاطفة الشعوب المسلمة وحشدها خلف الأهداف التي تراها هذه الجماعات, وتحولت الخلافة إلى يوتوبيا بمجرد تحققها يتحقق كل شئ مثالي. والحقيقة أن الخلافة كانت شكلا من أشكال الحكم البشرى المناسب لفترة تاريخية ما، لم تكن أبدا من مكونات العقيدة والشرع، في حين أصر معظم مفكري الإسلام السياسي على إدراج الخلافة في أصول الدين لترسيخ مبدأ السلطة الدينية واستخدامها في الوصول لما يريدون من غايات سياسية، فالبرغم من غياب الخلافة كإطار سياسي واقعي إلا أنه يمكن الاستعاضة عنها بفكرة الجماعة تأخذ ما كانت تقوم به الخلافة من وظائف، وبالرغم من غياب منصب الخليفة إلا أنه يمكن أيضا الاستعاضة عنه بفكرة القائم على الجماعة والقيام بما كان يقوم به الخليفة من وظيفة دينية وسياسية ولأن الأوطان بما تحمله من خصوصية تطورت بتطور الزمن والمعرفة كانت غير ملائمة لفكرة عمومية الخلافة كان نفى وإلغاء فكرة الوطن عند أولئك من الضروريات التي لاتحتمل الفصال ،لعلك عزيزي تستطيع الآن تفسير كلمة أحدهم الصادمة حينما صرح ( طظ في مصر) ثم برر ذلك بفلتة اللسان الغير مقصودة ..!! فليس في الإسلام سلطة دينية ولقد أقر الإمام محمد عبده ذلك (إنه ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة للخير والتنفير عن الشر، وهى سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم ، كما خولها لأعلاهم يتناول بها أدناهم...)الأعمال الكاملة الجزء الثالث. ويقطع الأستاذ الإمام شوطا أبعد من ذلك حينما يقرر أن وظيفة الإسلام الأهم هي تحطيم أي سلطة دينية واجتثاثها من جذورها فيقول ( أصل من أصول الإسلام ..قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها . هدم الإسلام بناء تلك السلطة ،ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسما و لا رسما.) ج3 الأعمال الكاملة. بل وينفى أن يتقلدها أحد مهما كان ويمارس بها أي سلطة من السلطات على غيره (لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ومسيطرا...وليس لمسلم (سلطة دينية)،مهما علا كعبه، في الإسلام، على آخر، مهما انحطت منزلته فيه، إلا حق النصيحة ..) ج3 الأعمال الكاملة. طمس هذه الآراء كان لصالح مشروع سياسي ومطمح بشرى للاستبداد على الشعوب بتغليف فكرة الخلافة هذه الهالة المقدسة, فلما تم إلغاء الخلافة العثمانية في عام 1924 طمحت الأسرة العلوية ممثلة في الملك فؤاد في استرجاع الخلافة إلى القاهرة وتنصيب الملك خليفة للمسلمين، وفى الجزيرة كانت دعوى تنصيب الشريف حسين بن على خليفة للمسلمين، طمحت كل الأسر الحاكمة العربية في منصب الخليفة، فهل كانت الغيرة على الدين والشرع هي الدافع؟ أم الولع بالمنصب الرفيع هو المحرك الأساسي؟ ولكن القدر كان يخفى تلك الصرخة المدوية التي أطلقها أحد تلامذة الأستاذ الإمام في صورة بحث( الإسلام وأصول الحكم 1925) و كان الشيخ على عبدالرازق الأزهري ابن الطبقة الأرستقراطية المصرية الحاصل على عالمية الأزهر وليسانس القانون من جامعة إكسفورد البريطانية ،كان بحثا على طريقة الفقهاء وأهل الكلام وفيه يثبت بالدليل أن الخلافة كانت مجرد اجتهاد بشرى غير ملزم والعبرة ليست في شكل الحكم إنما في تحقيق مقاصد الشرع الكلية. أثار البحث عاصفة هوجاء أطاحت بأحلام الطامحين في المنصب فتم تجريده من شهادة العالمية وطرده من الأزهر وفصله من القضاء، وكانت الجملة الأخيرة من بحثه بمثابة ملح يلهب جراحا مقرحة ونفيرا يوقظ أمواتا من قرون، ينادى الشرقيين ( " أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم(". وبالرغم من يأس الأسر الحاكمة في المنصب إلا أنه تم توظيف مصطلح الخلافة سياسيا لصالح جماعات الإسلام السياسي بكافة تشكيلاتها الراديكالية منها والإصلاحية. ولكن أي خلافة يقصدون هل هو نموذج الخلافة الراشدة الذي لم يصمد إلا القليل وتم الإجهاز عليه بمذابح قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين كان على رأسهم الخلفاء الراشدين أنفسهم، اغتيال عمر وهو يصلى الفجر والثورة على عثمان وحصاره في بيته وحرمانه من الطعام والشراب وقتله وهو الشيخ الذي نيف عن الثمانين، ومأساة الإمام على عليه السلام ويأسه من صلاح الناس ومناداته على أشقى الناس( حيث بشره النبي بالشهادة على يد أشقى الناس قائلا له " يا على يقتلك أشقى الناس") ليخلصه مما هو فيه من كرب سياسة أمة أصر على حكمها بالرشاد وأصرت على أن تحكم حكم القياصرة حتى أطل أشقى الناس بأنفه الكئيب وقسم هامته بسيفه وهو يبكى من خشية الله ويبثه همومه، وتسميم الحسن بن على ( بجنود لله من عسل!) , أم نموذج الحكم الأموي وبيعة السيف، والمروانى ورمى الكعبة بالمنجنيق وحرقها بالنار، أم الحكم العباسي باغتيالاته وفتنه ودمويته ،أم العثماني بتخلفه ومرضه وهل كانت هذه النماذج خلافة أم ملكا إمبراطوريا عضودا ليس فيه من الرشاد والعدل شئ ؟ هي دعوة إذن للملك المستبد القائم على التأويلات البشرية للنص. حتى وإن سلمنا بنبل مقصدهم في العودة لصورة الخلافة الراشدة فذلك يندرج تحت الأهداف المثالية كما ألمح د.أمين حامد زين العابدين(مقال مفهوم الدولة الإسلاميةج3) التي يصعب تحقيقها في الواقع لأنها تدخل في مجال الغايات الذي أسس له الفيلسوف الإنجليزي النمساوي المولد كارل بوير(1902-1994 ) (حيث لا توجد وسيلة عملية للاختيار بين غايتين كما (( لا يمكن الوصول إلى قرار أو حل في مسألة الغايات عن طريق الجدل العلمي والعقلاني.))). فماذا كانت نتيجة محاولات إحياء الخلافة واقعيا في أفغانستان والسودان والصومال إلا الفشل المدوي والذريع وأنهار من الدماء ، فالخلافة الراشدة كنموذج للحكم ارتبط بظروف موضوعية تاريخية غير قابلة للتحقق في عصرنا أو حتى في الحقبة التاريخية اللاحقة بعدها مباشرة !! فلا يبقى غير النموذج الإمبراطوري على غرار الإمبراطوريات الإنجليزية والسوفيتية وقد تبين أن كلفة هذا النموذج عالية جدا من الناحية البشرية والاقتصادية فتخلى الإنجليز عن إمبراطوريتهم التي لا تغرب عنها الشمس تحت وطأة التحلل السياسي والإقتصادى والعسكري والذي ظهر جليا في الحرب العالمية الثانية ثم حركات التحرر الوطنية ،وتخلى السوفيت عن حلمهم الإمبراطوري بفعل عدم التجانس العرقي والثقافي وتوالى الأزمات الاقتصادية والسياسية والتجمد الأيدولوجى الذي اغترب عن الواقع وفشل النخبة الحاكمة والمفكرة السوفيتية في تجديده بما يتلاءم مع معطيات العصر ولوازمه،هذه النماذج الإمبراطورية وغيرها هي النسخة المماثلة للخلافة الأموية والعباسية وما بعدها، من ناحية طريقة الحكم، والهدف من التوسع لم يكن من اجل هدف ديني حتى ولوتم إعلان ذلك كان الهدف سياسي وإقتصادى من أجل موارد جديدة للإمبراطورية ومقتضيات الدفاع عن النفس في إطار صراع الإمبراطوريات يقول الأستاذ الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد ( أشهر المسلمون سيوفهم دفاعا عن أنفسهم وكفا للعدوان عليهم، ثم كان الافتتاح ( الفتوحات) بعد ذلك من ضرورة الملك ...) فلا يبقى لنا إلا نموذج الدولة الوطنية القوية الفاعلة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا والتي تستطيع التوائم مع مجموعة دول وطنية آخري بنفس ميزاتها وقدراتها وتطوير هذا التوائم في صورة اتحادات اقتصادية وسياسية كونفدرالية هذا هو النموذج الوحيد الملائم للعصر وهذا ما يصر الإسلاميون على جحد مكونه الأساسي الأول وهو الدولة الوطنية لصالح يوتوبيا لن تتحقق. Comment *