لم تتوقف تبعات وصول الإسلاميين لسدة الحكم في دول ما يوصف ب"الربيع العربي" على المحاولات الحثيثة لإعادة انتاج الدكتاتوريات القامعة بمسوح دينية، بل انها تفوقت على سابقتها في توفير البيئة الحيوية والمناخ الملائم لأحط ألوان الانتقام والتصفية الجسدية للمعارضين وهي القتل ب"المُعّتقد"، وفي ذلك تتعدد الأدوات وتختلف القنوات لكن أيسرها توفير الغطاء لفتاوي طائشة تُكفر وتُخون وتغير قواعد اللعبة من جدل المعارضة والموالاة، الى حرب ديار الكفر والإيمان، و تبدو المقاربة واضحة مع العديل الموضوعي لهذا النوع من التصفية الجسدية وهو القتل ب"الهوية" والذي أصبح تجارة دموية رائجة في العراق عقب الاحتلال الأمريكي. في الأسبوع الماضي، قادت إحدى رخص التكفير الزعيم التونسي شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين إلى نهايته، بعد محكمة تفتيش نصبها عدد من الإسلاميين في مدينة جرجيسبتونس، يطالبون بقتله ونجيب الشابي رئيس الهيئة السياسية للحزب الجمهوري، زاعمين إنهما يعاديان الله وكفرا بالإسلام وبالرسول، وفي مصر وبعد أن قتل محمد الجندي عضو التيار الشعبي جراء تعرضه لعمليات تعذيب بمعسكر الأمن المركزي بعد اعتقاله قرب ميدان التحرير يناير الماضي، ومن قبله الصحفي الناصري الحسيني أبو ضيف الذي لقي مصرعه في محيط قصر الاتحادية ديسمبر الماضي، خرجت فتوى لتكفر جبهة الانقاذ (أكبر فصائل المعارضة)، واتضحت معالم الصورة أكثر لتشق إحدى فتاوى مشايخ السلفية عن قلب (بلعيد) وتصفه ب(الملحد) الكاره لله ورسوله والذي لا يعترف بالدين مثله مثل الكثير من اليساريين والناصريين في مصر. على أيه حال، وفي خضم فوضى الفتاوى التي يصدرها من ليسوا أهل علم أواختصاص، ومع ذلك التوظيف الممنهج للفتوى في أغراض سياسية مفهومة، فقد بدأت الدائرة تضيق مبلورة طبيعة المعتقد السياسي المستهدف بتوفير الحاضنة السياسية لممارسة ألوان التصفية الجسدية ان فشلت المعنوية له، وهم على الأخص القوميين والناصريين واليساريين والذين يجسدون بلا شك ثأرا وخصومة تاريخية بامتياز للاسلاميين والمؤلفة قلوبهم، فالتيارات القومية لا تمثل مجرد حالة حركية فئوية بل تعبير عن رؤية لطبيعة الصراع في المنطقة، وقد برز ذلك بوضوح فيما كشفه المؤتمر القومي العربي، في تونس العام الماضي من خلاف حاد بين التيارات القومية والتيارات الإسلامية حول الملف السوري، وهجوم مجموعة من المحتجين على الكلمة التي ألقاها زعيم حزب النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي في المؤتمر، والاحتجاج على وجوده ورفع شعارات تدين مواقف حركة النهضة من التطبيع وتجريمه مع الكيان الصهيوني. ومجموعة المواقف التونسية من الملف السوري، وفي نفس السياق جاءت تصريحات تليفزيونية ل(بلعيد) حول تسهيل إرسال السلفيين إلى سوريا للانضواء تحت لواء الجماعات المسلحة في سوريا لتعجل بعجنه في آلة القتل في غياب الحماية الأمنية من (النظام النهضوي)، بما جعله رأس ذئب طائر للمعارضين وفي طليعتهم أنصار التيار القومي والاشتراكي والاتحاد العام للشغل الذي يمثل الجناح الاقتصادي لمطالب هذا التيار. ولم يختلف الوضع كثيراً في مصر، حيث مورست باتقان لعبة توزيع الأدوار بين إخوان ينأون بأنفسهم عن الدخول في صراع مباشر وسط دور غامض لميليشياتهم، وسلفيين يستغلون منابرهم للتعريض تارة والتحريض السافر تارة أخرى، فيما مناخ الفوضى السائد وتغييب القانون وإسقاط دولة المؤسسات يمهد التربة لتمرير هذا المخطط. المفارقة أنه قد يكون من المفهوم مناصبة الإسلاميين لنظام مبارك ألد ألوان العداء والخصام، بعد ثلاثين عاما من السحق في قبضته الأمنية، لكن لم يكن مفهوماً أن يدشن الرئيس الإخواني محمد مرسي فترته الرئاسية بمرور الكرام على السبعينات والثمانينات والتسعينات وأوائل الألفية والحديث بمأثورته الخالدة (الستينات وما أدراك ما الستينات؟!!)، وهي مفارقة تحتاج الى الكثير من التدقيق والنظر بمنظار الإخوان لمن سبقوهم في سدة السلطة، فمع مبارك والسادات ورغم ما شهدته حقبتيهما من عداء معلن للإسلاميين، الا أن الحقبتين شهدتا هامشاً كبيراً من التسامح السياسي المسقوف والقائم على تفاهمات أمنية، أتاحت للإخوان وحلفائهم حضوراً سياسياً واقتصادياً كبيراً سهله انسحاب الدولة، بعكس فترة المد الناصري القومي بدولتها القوية وانتصارها للعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني ومواجهتها الشرسة للاستعمار والامبريالية، وهي مسألة لم تتلاقح مع الفكر الإخواني الرأسمالي الجانح للدخول في تفاهمات مع الغرب. وفق هذا التقييم، يمكن تفهم الرهاب القومي الذي أصاب الاسلاميين في تونس ومصر، فقد وصلتهم الرسالة وصم آذانهم جرس إنذار مدو بأن الروح مازالت تدب في التيارات الاشتراكية والقومية، بما يجعل (تديين) الخصومة السياسية واغتيال أو تيسير رخص تصفية قادتهم ونشطائهم قضية وجود وتمكين ليس على مقدرات شعوبنا العربية، بل وأيضا على عقول أبنائها.. لكن صدق المثل الشعبي حين قال "حلم ليلة صيف!!".. وبالتونسي "لقد هرمنا". Comment *