إياك أن تنالها كلماتك بسوء، وحذار من أن تتعرض لها، فهي وإن كانت ليست بارعة الجمال، وليست أميرة أرستقراطية تكفيني، وحسبي أنها في مخيلتي كما أشتهي أن تكون. هذه كلمات دون كيخوت "أو كيشوت"، حينما كان ينهال بسوطه على مساعده سانشو، عقاباً لأنه تفوه بأن حبيبته دولسينيا، محض فتاة ريفية من السوقة والهمج، في الرواية الأكثر شهرة دون كيخوت دي لامنتشا، للأسباني ميجل دي ثيرفانتس. من لم يقرأ الرواية، فاته الكثير من الجمال، فهي عمل إبداعي استثنائي.. يطرق قضية المسافة بين الممكن والحلم، ويتناول عذابات الإنسان، هذا الكائن المفطور على أن يحلم، ويطارد أحلامه حتى الرمق الأخير. بطل الرواية دون كيخوت، رجل ليس ذا شأن.. قروي مديد القامة هزيل شاحب، أفنى من عمره خمسة عقود يقرأ عن الفرسان الجائلين وسير الأبطال، ولأن هذه الكتابات تختلط فيها الحقيقة بالأباطيل، والواقعي بالزائف، فقد أصيب بما يشبه اللوثة العقلية، فما كان إلا أن ابتاع حصاناً عجوزا أعجفا، واتخذ خادماً شكاكاً بدينا، واستخرج من مخزن بيته درعاً ورمحاً متآكلين، فشرع يصلحهما قدر ما استطاع، ومن ثم هام على وجهه في البراري والحقول والبيادر، كي يبارز الأعداء الوهميين، ويوقع بهم الهزائم. ومثلما بدد خمسة عقود من عمره، في قراءة قصص الفرسان، بدد ما تبقى يتقمصهم ولا يقدر أن يكونهم.. فأخذ يبارز طواحين الهواء، التي كان يتخيلها جيوشاً جرارة تتأهب لمنازلته، ويهاجم عرضاً مسرحياً للعرائس كي يحمي البطلة من السحر الأسود، وفي كل مرة، وحالما كان يفرغ من معركته الضارية، يقف منتشياً ينتظر عبارات المديح، فما يكون إلا أن يهاجمه الناس، ويتهمونه بالحماقة والجنون. شاعرنا المظلوم حياً وميتاً، نجيب سرور التقط هذه «الومضة» وهضمها هضماً جيداً، ومن ثم حولتها عبقريته الفذة إلى نص يفيض شاعرية عذبة مفرطة الحساسية، في ديوانه: لزوم ما لا يلزم، حيث أصبح الشاعر هو كيخوت ذاته، الذي «لم يمت بطلاً ولكن مات كالأبطال يبحث عن بطولة» أما الحبيبة دولسينيا، فهي قريته أخطاب بالشرقية، التي تنام بين فكي الفقر وتمص البرجوازية دماء فلاحيها الكادحين المعدمين.. والشاعر إزاء هذا الواقع القبيح، لا يملك إلا كلماته.. فهل تجدي الكلمات «فيما وصفه الشاعر ذاته، بمعركة الأفاعي والضفادع». إن وجداننا يتشكل بما نقرأ، أو نحن ما نقرأ بصورة ما، وما نتوق لأن نكونه، ولعل الكثير من الأفكار، والكثير من الخيالات والأحلام، التي تشقينا، قد تسللت إلى ذواتنا، من سطور كتاب طالعناه.. لكن أليس من الأفضل أن نشقى بأحلامنا، من ألا نحلم على الإطلاق؟ هذا سؤال لابد أن تطرحه القراءة المتمعنة للرواية، فهل يبتر الإنسان أحلامه، ويستأصل طموحاته، فيعيش في رتابة الدعة، يتفيأ ظلال الخمول، أم يصطلي النيران فيما يحاول أن يصنع حلمه واقعاً؟ قبل ثورة يناير، تمثلت آفة المجتمع المصري الكبرى، في أن نظام المخلوع قد أصاب طاقة الأحلام في دماغه بالنضوب، أو بالأحرى بشلل كلي، وقد تجلت هذه «الحقيقة-الكارثة» في أنماط ما كان يفضله المصريون للقراءة، فمنذ تسعينيات القرن الماضي، وحتى بزوغ الثورة، كان يزعجني أيما إزعاج، أن كان يقال إن الكتب الأكثر مبيعاً، هي تلك التي تسمى بالدينية، والمليئة بالحديث عن غيبات الحياة الآخرة، كعذاب القبور، والثعبان الأقرع، والمسيخ الدجال، وما يضاهي ذلك من كتابات، لم تهتم مطلقاً بالتقاط خيوط اللحظة الراهنة، وطرح إشكالياتها والبحث عن حلول لهذه الإشكاليات. يبدو أن المجتمع كان قد اختار أن يغيب عن الوعي، وأن سحائب ردة ما عن الحلم كانت تعكر سموات مصر، وكان الناس «إرادياً أو لا إرادياً» يهربون من واقع مكفهر إلى غياهب خرافات أو حقائق ليست تسهم في تغيير واقعهم واستئصال مفاسده.. كان الوطن قد عجز عن الحلم.. وكانت الأحلام مقموعة والآمال قيد الإقامة الجبرية. اليوم تكشف إحصائيات دور النشر، عن أن الثورة غيرت تفضيلات القارئ المصري، فأصبحت كتب السياسة في الصدارة، ما يعني أن الناس قد شرعوا يحلمون، أو بتعبير أدق، يحاولون قراءة الواقع، تلك القراءة التي لا بديل عنها، لصناعة أحلامهم، متشبثين بطوق النجاة الوحيد، الذي يستطيع أن ينقذ الأمم من بلادة اللافعل. إن هكذا قراءة، ليست فعلاً سلبياً، وليست كقراءة الكتب عن الغيبات، أو كقراءة دون كيخوت التي ضيعته وبددت عمره سدى، فيما هو يطارد الخرافات اللامرئية، لكنها فعل إيجابي، يتكئ على الرغبة في الفهم والتحليل الموضوعي، ومن ثم الانطلاق من المعرفة إلى التغيير المرجو. إن الشقاء بأحلامنا، خير من أن نحيا مبتوري الأحلام.. وأن تخربش أظافرنا جدران المستحيل، حتى لو أدمينا هذه الأظافر، قبل أن تتشقق الجدران، خير من نجلس بجوار الجدران، منتظرين ما بعد الحياة، حتى نخلص من واقع نكرهه، ونحن مكرهون عليه سلبياً. الغد الذي نصبو إليه، بدأ بحلم لن ينتهي، والثورة حلم وطن، قرر أن يحلم حتى يستولد الحلم من أضلع المستحيل، أو كما يختتم نجيب سرور ديوانه: لو لم تكن أقوى من اليأس ترى كيف وصلت؟ [email protected] Comment *