يقف على حافة "الطرابزين" وينظر إلى ماء النهر وهى تلمع في أضواء القمر، يفصله عن أرضيه الكوبري مترٌ ونصف تقريبًا، وعن الماء ما يقرب من الستين مترًا لا ينتبه أبدًا إلى من سيفوز به، صخرة. تمساح أو حتى مخلوق بحري أتى ليزور الرفاق في النهر! لا يهتم ولا ينتبه بالطبع لتلك الرعشة الخفيفة في ساقيه. ينظر للسماء وللنهر بالتبادل ويتحفز للحركة، يخبره حدسه بأن أحدهم يصعد الكوبري الآن، لم يهتم فهذه اللحظات لا يزعجها أحد، كان قد اتخذ القرار.. " خُلقت المسافات لنجتازها لا لشيء آخر سوى المسير.. هنا يمكن السير" صرخ بعد ذلك وهو يضحك.. وداعًا لمح ذاك الرجل الصاعد رأسه وهى تهبط في سلام وتمتم في حزن مفتعل: "لابد أن فتاته تركته أو ما شابه، كم هو أحمق، لا تستحق الفتايات كل هذا، كلهن خائنات." انتفض الرجل بعد مترين من السقوط تقريبًا وقال: كم أنا أحمق، لماذا فعلت هذا، أنا استطيع العوم.. أنا غبي أنا غبي انا.. ابتلع بعض الماء العذب قبل أن يطفو على السطح وانتابته الهواجس قرر فجأة أن يترك نفسه يغرق يالا الحماقة كيف أغرق وأنا استطيع العوم".. استطيع أن أنسى ما تعلمته ولم لا سأنسى أننى استطيع العوم .. ولكن كيف أنا أستطيع العوم ولذلك أنا أحمق وصل شاطئ النهر وصعدا على الجزء اليابس، تصور أنه سيكون وحيدًا في المدينة الثالثة بعد منتصف الليل. " فليحفظك الإله، بالمناسبة.. قفزة هائلة..لابد أنك تتدرب على اجتياز اختبار العسكرية، كن مطمئنًا ستقبل بالتأكيد، أنت قافزٌ بارع. ما هذا أنا لا أتدرب على شيء ولا أحب العسكرية بالأساس فقط كنت أحاول الانتحار ولكنني أحمق.. اقفز في النهر وأنا استطيع العوم، هل رأيت بحياتك من هو أغبي من ذلك." بلى سيدي أنا أكثر غبائًا، أنا حزين هنا ولا أستطيع العوم، أريد الانتحار ولكنى أخاف، الغرق نهاية مؤلمة ولم أبحث عن وسيلة أخرى وأتيت هنا، أنا أكثر غبائًا منك." تمتم الرجل المبْتَل: النهايات لا ينالها الشجعان فقط، ستحصل على واحدة أو أكثر يا رفيق لا تقلق. على الأقل لديك سبب، أنا شجاع وحصلت على الكثير منها.. لم ترضني أحداهما لم أنل سوى الشرود.. الشرود ولا شيء غير ذلك.. مرت لحظات صامته باردة قبل أن ينطق مجددًا: هناك حيث هذا القارب الصغير حبل سميك ستشد وثاقي جيدًا ولأقفز مرة أخرى من أعلى الكوبري وهكذا تتخلص أنت من الخوف وتحصل على نهاية لطيفه لك فيما بعد. وافق الرجل سعيدًا بكسره هذا الحاجز الكئيب، ليس سهلًا أبدا على مرء مثله أن يكسر هذا الحاجز الفولاذى. " لن أنساك أبدا يا رفيق، هل أحكمت الوثاق جيدًا كما أخبرتك." كما أخبرتني تمامًا، لم أنس شيئا، لا تقفز قبل أن أنزل حتى لا أراك، سأصلى من أجلك كثيرًا".. " لا أرجوك.. لا تفعل، إن صليت من أجلى سيبعث الرب من ينقذني، لا تفعل، أراك في مكان أفضل من هذا.." على المرء أن يكون حذرًا، الرب لا يدعم كل من يريد، تعلمت السباحة ولم يمنعني، ولهذا لم أغرق.. على كل حال صنع الإنسان الذي صنع الحبال.. تلفحه ذرات الهواء بسخرية شديدة حتى أنها مرت من بين قدميه وركلته في مؤخرته وهو يهبط في هدوء وسلام.. " والآن سأستمتع ببعض الماء البارد في رئتي البائستين." ليس كل ما تفعله الغرائز سيئًا وإلا فلما خلقها الرب من الأساس.. أحيانًا تدافع الغرائز هو يكرها كلها ويتعجب من خلقها في الأصل، يستطيع الإنسان الاختيار والثورة بلا غرائز تحتاج دومًا للإشباع.. تهدج سطح المياه قليلا في مكان هبوطه صعد بعد ذلك على السطح واتجه للشاطئ نظر إليه الرجل بابتسامه دافئة.. " حمدًا لله على سلامتك، لم أتخيل أن أعيش بدونك." لماذا فعلت هذا، لماذا دعوت الرب، لماذا تركت طرف الحبل، لماذا لم توثق الحبال جيدًا، لماذا لم تضربني على رأسي لأهبط دون حراك، لماذا سحبت أنا الحبل.. ألف لماذا يا رفيق؟! " لم ينكسر الحاجز بعد، كثيرًا ما نفعل أشياء لا ترضى من نحب ولكنى فعلت هذا لأنني أحببتك وأنا جبان، أعرف أن الموت في هذا العمق – وأشار للنهر – نهاية سعيدة لك ولكن ما بداخل هذا العمق – وأشار لصدره – نهاية سخيفة وحزينة لجبان يحب مثلى.. شرد الرجلان في الأضواء على الجانب الآخر من النهر قبل أن يقطع شرودهما قارب يعمل بالمحرك يمر بعنف.. شق القارب النهر لنصفين وصنع أمواجا على الشاطئ تحت قدميهما.. نطق الرجل الأول. نحن أغبى من على الكوكب كيف نحاول الانتحار في نهر مغفل كهذا يتحول بحراً ... نهر مغفل نطق الآخر محولا مسار الحديث: هل كل من يحب جبانًا يا رفيق، هل تلومني على ما بداخلي؟! هذا النهر لا يحب الموتى يبتلعهم ويخرجهم احيائاً يعبثون فلنبحث عن نهاية أخرى... شردا مرة أخرى يتأملان أضواء الشاطئ الآخر حتى نطق الأول: " القيمة المطلقة.. السطح.. العبث". أنا موجود لأنك هنا يا رفيق يكمل بعضنا الآخر.. لن أعيش بدونك أيضا!" استمتعا قليلاً بهذا الدفء المتبادل حتى نطق الرجل الأول بجديه: " ما رأيك أن نتعارك أعلى الكوبري ولنضع القواعد: المنتصر يلقى المهزوم بعنف شديد إلى العمق، ثق أنه سيموت كمدًا على رفيقة وسيلقى بنفسه ليتذوق، لسنا قابيل وهابيل على كل حال لدينا الحب.. هذا يكفى." " رائع يا رفيق دائمًا تأتى بحلول رائعة." " أشكرك .سأصعد أولا ولتأتى خلفي؛ أنا رجل يغتصب حبيبتك وأنت تخلصها من هذا الذئب البغيض!" وغادر إلى الأعلى... أغمض عينيه ممنيًا نفسه بحلم الشجاعة المؤلم باهظ الثمن.. لا يهم النهايات لا تفرق.. القاتل مقتول.. سيلتزم بدوره كمهزوم رائع.. لم يجيد بحياته شيئًا أكثر من ذلك ولكنه أحس بامتنان غريب نحو رفيقه الطيب.. أخذ الطريق لأعلى الكوبري في قمة الوضوح.. وضوح ما قبل النهاية بلحظات؛ تلك القوة الساحرة تسرى في جسده. قطع أول أزرار القميص ورفع زراعه حتى ظهر مرفقه وتقلبت ملامح وجه لتنبئ بمولد نهاية جديدة .. ربما بداية مرت بجانبه سيارة تحمل الكثير من الخراف القذرة كريهة الرائحة؛ لم ينتبه لها على الإطلاق فهو لا يرى سوى هدف واحد يقف على الكوبري أكثر الأعداء قربًا لقلبه بل الأكثر قربًا على الإطلاق.. مرت اللحظات كعمر الكون طويلة.. سمع صوت ارتطام مكتوم؛ انتبه بعده لهدفه المصاب الذي يتقلب في الهواء ببطيء شاه تشوى في الصحارى على النيران الباردة وتسقط بعنف بطيء في النهر.. أسرع الخطى واستند على السور الحديدي يرى الهدف يهبط بهدوء يقولون أن للموت رهبة.. قدسية غريبة وحزن عميق.. وبالأخص للجبناء ارتسمت على وجهه ملامح صارمة قاسية مثل القناع؛ لم تتهدج عضلة واحدة في وجهه؛ فقط سقطت دمعة واحدة تسابق الزمن لتصل رفيقه ولتهبط معه إلى الأعمق.. وأعمق.. وأعمق.. وأعمق.. وأعمق.. تمت.. البديل-ثقافة Comment *