بحلول يوم الأحد المقبل ، 16 سبتمبر ، يكتمل عقد بداية عام دراسى جديد فى كافة مراحل التعليم . والمفترض أن تعم الفرحة والبسمة كل أسرة ، بأن أولادها قد دخلوا المدارس للمرة الأولى ، أو تدرجوا من سنة إلى أخرى أعلى على كافة درجات السلم التعليمى . لكن واقع الحال ينطق بخلاف ذلك ، أو على أدنى تقدير ، هى فرحة مشوبة بحزن ، مكتوم أو ظاهر ، لأن بدء عام جديد يعنى استمرارية واقع المعاناة فى حياة كل أسرة ، بدرجات مختلفة ، لما تتحمله من أعباء مادية أضافية سواء مع ارتفاع تكلفة المدارس الخاصة ، أو شيوع ثقافة الدروس الخصوصية ، فى واقع تدنى حال المدارس الحكومية ، وسوء مستوى التعليم فيها ، بل إن بعض سنوات الدراسة ، خاصة النهائية للثانوية العامة ، تصبح الدروس الخصوصية بمثابة تعليم مواز ، عندما لا يذهب الطلاب إلى المدرسة كلية ، وسط قبول يثير الشك والريبة لهذه الظاهرة ، التى يتم التحايل عليها بطرق شتى . هذا الشيوع تبلغ تكلفته المليارات من الدخول المرهقة ، والتى كان يمكنها ، فى حال ضخها فى شرايين الاقتصاد إحداث طفرة مهمة ، وخلق فرص عمل تقلل من وطأة البطالة . وهذه المعاناة المتزايدة عاماً بعد عام ، هى محصلة موضوعية لانهيار منظومة التعليم مجتمعة ، والهدف الأسمى المرجو منها . ومما له صلة ، والذين يتحدثون عن " الستينات .. وما أدراك ما الستينات " يتجاهلون عمداً حقيقة مجانية التعليم الفعلية ، ومبدأ تكافؤ الفرص بين المصريين كافة ، والذى كان وسيلة ناجعة للحراك فى السلم الاجتماعى ، وتقلد الأكفاء والموهوبين ، دون أى تمييز ، لمراكز مرموقة فى المجتمع . وكنت ، كما غير من الملايين الذين توفرت لهم فرصة التعليم المجانى فى عهد ثورة يوليو ، ومكننى تفوقى من دخول إحدى كليات القمة ، ومن ثم المشاركة والتمتع بمردود الحراك الاجتماعى . وتحضرنى الذاكرة أن المدارس الحكومية كانت للمتفوقين ، والخاصة لمن لا يحصلون على مجاميع تؤهلهم لأن يكونوا ضمن تلك المدارس الحكومية ، ولم أعرف طيلة سنوات دراستى الدروس الخصوصية التى لم أكن بحاجة إليها ، واقتصرت ، فى حدود ضيقة ، على من يعانون صعوبات فى التحصيل الدراسى ، وليست كما هو الحال حالياً للحصول على أعلى الدرجات التى تؤهلهم لدخول كلية مرموقة ، أو ما دونها . ولا يتسع المجال هنا لتبيان مثالب التعليم فى بلادنا ، لكننى أركز على طرح سؤال مهم : هل التعليم حالياً حق للمواطن ؟ أم سلعة تتعدد مستوياتها ، وترتبط بالقدرة المالية والشرائية ؟ المفترض ، نظرياً ، أن الحق لكل فرد من أبناء المجتمع فى التعليم الجيد الذى ينمى قدراته ويؤهله لسوق العمل واجب أساسى على الدولة توفيره ، وبمجانية كاملة حقيقية فى كافة مراحله . بيد أن واقع الحال ، وفى الممارسة الفعلية ، خلاف ذلك ، وأصبح هذا الحق بمثابة سلعة متداولة ، من يملك القدرة المالية بمقدوره الحصول عليها ، وبرزت الوضعية الطبقية بصورة صارخة : التعليم المتدنى ، شكلاً وموضوعاً ، هو المتاح للفقراء، وبدون مجانية حقيقية ، ومن ثم يتم التسرب منه ، وما يطرأ من تحسن فى جودة هذه السلعة ، بدرجات متفاوتة ، متاح للقادرين ، حتى الطبقة الوسطى التى تجاهد وتعانى أشد المعاناة، من أجل أن توفر لأولادها مستوى معقول من التعليم يمكنهم من مواصلة الحياة ، لم يعد يمكنها ذلك . ومن ثم صارت المدارس الأجنبية ، بما تتيحه من جودة تعليمية مقصورة على الطبقات الغنية وحدها . وعلى صعيد التعليم الجامعى ، تواصلت هذه الطبقية ، عبر الجامعات الخاصة ، بل من المستغرب أن تجارى الدولة هذه " الموضة " ، فبات ما يعرف فى جامعاتنا ، وفى كليات الاقتصاد والتجارة والحقوق وغيرها ، أقسام تدرس المناهج الجامعية بلغات أجنبية ، كالإنجليزية والفرنسية ، نظير رسوم إضافية تقدر بعدة آلاف من الجنيهات ، فى تمييز طبقى فاضح ، يحرم حتى المتفوقين ، الذين كبدوا أولياء أمورهم الكثير من دخلهم ومدخراتهم ، الفرصة الحقيقية للتأهيل لسوق العمل . وبالتبعية ، جرفت تنامى هذه الظاهرة الطبقية الجامعات الحكومية ، ومن قبلها المدارس الحكومية ، من خير كفاءاتها ، وهو ما انعكس سلباً على جودة ما تقدمه من خدمة تعليمية . وما تزال هذه الظاهرة الطبقية فى تواصل مستمر ، وتتحكم بضراوة فى تحديد شكل المستقبل ، خاصة أبناء الفقراء الذين لم يشفع لهم نبوغهم وتفوقهم من التواجد فى تلك المنافسة الشرسة ، التى باتت محجوزة لأبناء الأغنياء وحدهم ، وتزاوجت مع ظاهرة الواسطة والمحسوبية فى حصد وظائف مرموقة فى شركات قطاع البترول والبنوك والقنوات الفضائية الخاصة ، وغيرها ، والتى تدر على أبناء هؤلاء دخولاً مجزية ، بينما لا يتوافر لأبناء الفقراء إلا القليل ، إن وجد ، وبرواتب بخسة ، لا تكفى الحياة ، أو التفكير فى أى مستقبل طالما حلموا به . إن ثورة 25 يناير، التى صنعها وشارك فيها قطاع مهم من هؤلاء الشباب ، سواء الذى تخرج منهم ، أو من يواصلون مراحل تعليمهم ، لم يكن محض صدفة ، سواء لهم أو لعموم شعبهم ، أن تكون شعاراتها الرئيسة " حرية .. تغيير .. كرامة إنسانية ، وعدالة اجتماعية ، وهى المطالب الحيوية التى لم تتحقق حتى الآن ، رغم كل التضحيات ، من دماء الشهداء ، ومعاناة وعذابات الجرحى والمصابين ، وحرية المعتقلين والمسجونين . ومن المحتم ، وفى سياق العدالة الاجتماعية أن تكون الثورة متواجدة داخل المنظومة التعليمية ، مراتب مجزية للمدرسين وأساتذة الجامعات تتيح لهم التفرغ الكامل للنهوض بجودة التعليم ، ومواكبة كل ماهو جديد فى المعرفة ، قبل تجريم وباء انتشار الدروس الخصوصية ، تطوير المناهج بما يتوافق وحاجة سوق العمل للقضاء على البطالة ، توسيع قاعدة المدارس والجامعات للقضاء على ظاهرة التكدس الذى يعيق الاستيعاب الجيد ، ويحقق التفاعل بين الطالب ومعلمه ، وتنمية المواهب والقدرات بعيدا عن التلقين والحفظ الذى يوفر أرضية خصبة لتفشى الدروس الخصوصية ، وتوفير الديمقراطية والحرية فى العملية التعليمية لتخريج أجيال قادرة على تحمل ، والمشاركة فى بناء وطن جديد مشرق لكل المصريين ، وما يمكن أن يقدمه أهل الاختصاص فى مجال التعليم من "روشتات " للنهوض بهذا القطاع الهام فى حياتنا . حينها فقط ، يصبح استقبال عام دراسى جديد فرحة حقيقية لكل أبناء الوطن ، وليس استقبال مقرون بغصة كما هو الحال الآن . دكتوراه في العلوم السياسية Comment *