الفكرة التي قام عليها حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي بقيادة خالد محي الدين في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، هي الفكرة التي قام عليها حزب الكرامة بقيادة حمدين صباحي في النصف الثاني من التسعينيات. وهي نفسها الفكرة التي يحاول أن يؤسس عليها اليوم، في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 الشعبية، وعلى التوالي: كل من عبد الغفار شكر (حزب التحالف الشعبي الاشتراكي)، وحمدين صباحي (التيار الشعبي المصري)، ومحمد البرادعي (حزب الدستور). وهي فكرة الجمع، في إطار تنظيمي واحد، بين منتمين إلى أيدلوجيات وتيارات سياسية متنوعة متباينة، من أجل تحقيق أهداف مشتركة وبرنامج واحد. وبالطبع فإن العمل من أجل توحيد الصفوف، والتكتل من أجل أهداف وطنية وديمقراطية في صالح الوطن، هو أمر في ذاته نبيل، وعمل يستحق التقدير، ينطلق قطعاً من نيات طيبة وحسنة. لكن في حين وبحق، في مفهوم الدين السماوي: الأعمال بالنيات، فإن على الأرض في مفهوم العمل السياسي والتنظيمي، لا تكون الأعمال بالنيات. فهذه الفكرة التي قامت عليها تنظيمات بالأمس، ويراد أن تقوم عليها تنظيمات اليوم، هي فكرة مستحيلة، غير قابلة للتحقيق أو التطبيق، بل إن الغاية النبيلة من وراء هذه الفكرة، توجد لتحقيقها سبل أخرى!. كيف؟. أولاً: إذا كانت الثورة هي (علم تغيير المجتمع)، وإذا كانت الأيدلوجيا هي (علم الأفكار)، فإن الحزب السياسي هو علم الحشد والتنظيم وتكامل الكفاءات، وأي حزب حقيقي هو أداة تنظيمية في يد فئة أو طبقة أو قوة اجتماعية سياسية، تهدف إلى تحقيق مصالح معينة معلنة، ينص عليها برنامج سياسي بوضوح وبتحديد. وهذا البرنامج لا يهبط من فراغ، وإنما من ايدلوجيا (أي أفكار أو نسق من الأفكار)، تصيغها أو تتبناها هذه القوى الاجتماعية السياسية أو تلك، لأنها تجد فيها نفسها وما يعبر عما تهدف إلى تحقيقه من مصالح، ثم تترجم الأيدلوجيا (أي الأفكار والمقولات النظرية الأساسية) إلى برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي، من خلال القراءة الدقيقة قدر الممكن للمجتمع والظرف التاريخي، ومن واقع الحال والمرحلة. ثانياً: توجد في الواقع المصري المعاصر، أربعة (تيارات أيدلوجيات)، لا خامس لها اللهم إلا عناصر على ضفاف هذا التيار أو ذاك، أو تتراوح بين هذه الأيدلوجيا وتلك. وهي: تياران ينتميان إلى اليسار (أي فكرة التغيير المجتمعي الجذري لصالح الغالبية الواسعة)، هما التيار الناصري، والتيار الماركسي. وتياران ينتميان إلى اليمين (أي تثبيت الأوضاع المجتمعية عند حدود معينة لصالح فئات متميزة ولو على حساب أغلبية الجماهير)، هما تيار الإسلام السياسي، والتيار الليبرالي. ثالثاً: حينما قام حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي اختار أن يحدد التيارات والأيدلوجيات التي "تندمج" أو تجتمع فيه بأنها: (التيار الماركسي التيار الناصري التيار الإسلامي المستنير)، والتيار الأخير هنا لم تكن اضافته تعبيراً عن واقع وجوده، إنما عن أمل في تحول وجود إسلاميين مستنيرين من مجرد عناصر ومثقفين متفرقين إلى تيار كامل، الأمر الذي لم يتحقق، وحتى الآن!. رابعاً: حينما قام حزب الكرامة اختار أن يحدد قواه، بأنها (كل) التيارات الأربعة الكبرى في الواقع من دون استثناء (الناصري الماركسي الإسلام السياسي الليبرالي)، ووصفتها وثيقته وبرنامجه بأنها: تيارات الوطنية المصرية الجامعة، واشترط تبني المنضم إليه من هذه القوى لبرنامجه الجذري (اليساري في واقع الأمر)، مع أن تيارين من الأربعة ينتميان بوضوح إلى اليمين!. خامساً: كان مستحيلاً تحقق شعار حزب التجمع (صهر الجميع في بوتقة واحدة)، فكيف "الصهر" أو حتى الجمع بين تيارات وأيدلوجيات متعارضة في قضايا وأحياناً متناقضة، والمشكلة أو المسألة أنه ليس هناك فحسب ضمن الماركسيين من يرفضوا بحدة وحتى يبغضوا بشدة الناصرية، إلى جانب ماركسيين ليسوا كذلك بالتأكيد، ونفس الشئ تماماً على صعيد الناصريين، إنما الأهم أن هناك بالفعل اختلافات حقيقية وتباينات جادة بين التيارين، من ناحية المنهج والفلسفة أي المقولات العامة الكلية، وبالتالي: من ناحية الأيدلوجيا والنظرية أي تطبيق المنهج على الواقع، وبالتالي ثانياً: من ناحية البرنامج السياسي أي تطبيق النظرية على تفاصيل وأحوال المجتمع في مختلف المجالات. سادساً: هذا، بقدر ما كان مستحيلاً أيضاً، تحقيق شعار: كل التيارات الأربعة للوطنية المصرية الجامعة، في حزب الكرامة، فإذا كانت الاختلافات حقيقية والتباينات جادة بين تياري الناصرية والماركسية اللذين ينتميا معاً إلى اليسار، فهي بالطبيعة وبالقطع أكبر وأصعب كثيراً، بين تياري اليسار هذين من جهة، وتياري اليمين الليبرالي والإسلام السياسي من جهة!. ولذلك فلقد خرج من حزب الكرامة أكثر الذين لا ينتمون إلى الناصرية، تماماً مثلما خرج من قبل من حزب التجمع أكثر الذين لا ينتمون إلى الماركسية!. لكن لا "الكرامة" ضم كل أو معظم الناصريين، ولا "التجمع" ضم كل او معظم الماركسيين!. لم يحقق "الكرامة" فكرته لضم تيارات الوطنية الجامعة، ولم يتحقق في ذات الوقت كحزب ناصري يضم مجمل التيار الناصري، تماماً مثلما لم يحقق "التجمع" فكرته لضم تيارات وصهر قوى في بوتقة واحدة، ولم يتحقق في ذات الوقت كحزب ماركسي يضم مجمل التيار الماركسي!. واستتبع ذلك، أو أنتج، ارتباكاً تنظيمياً، بل مع الأسف في الحالتين والتجربتين تراجعاً مطرداً، ومحدودية في الدور والأداء مستمرة، على الرغم من وجود كفاءات وشخصيات ضمن أصدق وأخلص من عرفتهم الحركة الوطنية المصرية المعاصرة، سواء في "التجمع" أو "الكرامة"، لكن ليس بوجود هؤلاء فحسب تنجح التجارب الحزبية وتنضج الأدوات التنظيمية. سابعاً: حالياً، في خضم الواقع السياسي المضطرب أو المضطرم في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 الشعبية، حيث تمكن تيار واحد هو الإسلام السياسي من الاستحواذ على معظم إن لم يكن كل السلطة، ويزداد إيغالاً ودأباً في عملية الهيمنة على مفاصل الدولة (أو ما غدا يعرف ب "أخونة الدولة")، تحاول التيارات الأخرى أن تدافع عن حضورها ودورها، أفكاراً وأيدلوجيات، انحيازات ومصالح، وأول ما تحاول أن تدافع به، الشروع في تجارب تنظيمية جديدة، لتكون أداة وسلاحاً في وجه الاستحواذ والاضطراب والفوضى الشديدة!. وأهم هذه التجارب التنظيمية، في طور التكوين، هي حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، الذي أسسه عبد الغفار شكر ومعه أبو العز الحريري وإبراهيم العيسوي وآخرون، وقد كان الأسبق في أعقاب الثورة، وهو حزب خرج من قلب حزب التجمع الذي يترنح بشدة حالياً، بسبب الاستئثار الطويل لجماعة رفعت السعيد الممثلة ليمين الحزب ولنمط ماركسي تقليدي متكلس. تماماً مثلما خرج قبلاً، حزب الكرامة من قلب الحزب العربي الديمقراطي الناصري الذي يترنح بدوره، ربما بدرجة أكبر، وقد وقع في براثن الاستئثار الطويل ايضاً لمجموعة أحمد حسن الممثلة لانتهازية سياسية واضحة ووصولية وتسلق مقيت داخل الحياة الناصرية السياسية والحزبية. ويلحق بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي اليوم، كل من حزب "الدستور" الذي أسسه محمد البرادعي، و"التيار الشعبي المصري" الذي أسسه حمدين صباحي. وكل هذه التجارب (حزب التحالف الدستور التيار الشعبي)، محاولات شريفة نبيلة، بنيات حسنة، تطلقها وتؤسسها شخصيات وطنية مرموقة، مخلصة وجادة، تستهدف انقاذ الثورة، وانجاز المهام الكبرى التي تضمنها شعارها الأساسي (الكرامة الحرية العدالة الاجتماعية). ثامناً: لكن هذه المحاولات التنظيمية الشريفة، تقع مع الأسف فيما نرى ونحسب في ذات الخطأ الذي وقعت فيه من قبل محاولتي (التجمع الكرامة). لأنها تقوم على نفس الفكرة المستحيلة: وهي الجمع في عضوية تنظيمية واحدة، داخل حزب سياسي واحد، بين منتمين لتيارات وايدلوجيات سياسية فكرية متباينة بشدة. صحيح أن بينها مشتركات أو قواسم عامة مشتركة عدة، لكن بينها أيضاً الكثير من التفاوت والاختلاف، وهذا أمر ليس سيئاً بالضرورة، بل يعني أيضاً غنى وتنوعاً، ويمكن تبادل الأفكار، ومناقشات راقية بين التيارات، إنما ليس في إطار حزبي واحد، يفضي إلى الصراع والانفجار، أكثر من أن يؤدي إلى التعاضد والتعاون. تاسعاً: إن التجارب والخبرات التنظيمية في العالم، واجهت منذ أمد طويل مثل هذه الإشكالية، وعرفت فيها كحل منطقي جاد، مجد صيغة (الجبهة) جنباً إلى جنب صيغة (الحزب). فالجبهة وحدها، وليس الحزب، هي التي يمكن أن تضم منتمين إلى ايدلوجيات وتيارات سياسية متباينة، ووحدها، وليس الحزب، هي التي يمكن أن تحافظ لكل منتم لتيار على خصوصية هذا الانتماء، وعلى البرنامج الخاص لكل حزب، وفي ذات الوقت، هي التي يمكن أن تضم: (أحزاباً ونقابات وجمعيات وشخصيات عامة)، في إطار عام هو جبهة ذات برنامج مشترك، يتضمن نقاط الاتفاق والالتقاء، من غير أن يعني ذلك أي تعارض مع وجود برنامج خاص لأي حزب أو هيئة أو جماعة داخل الجبهة. عاشراً: هكذا فنحن في اللحظة الراهنة، في أمس الحاجة على وجه الإطلاق، إلى جبهة القوى الوطنية العاملة من أجل أهداف ثورة 25 يناير، من كرامة إنسانية، وديمقراطية وحريات سياسية كاملة، وحرية البلاد واستقلالها الوطني، وعدالة اجتماعية حقيقية وتنمية مستقلة، مما يحقق الوطن المتقدم المنتمي إلى أمة قوية وإلى عصرنا. إننا مقبلون في آونة تقترب، على انتخابات المجالس المحلية، وانتخابات البرلمان، وبعدهما انتخابات رئاسية سواء مبكرة أو في موعدها ولا نستطيع أن نستعد لها، ولإنهاء حالة الاستحواذ لفصيل أو اتجاه واحد، ولاستنقاذ الثورة الشعبية الكبرى من مزيد من الارتباك والتعثر الخطر، سوى بهذه الجبهة العريضة، من أجل مصر التي طمح إليها كل الذين خرجوا في 25 يناير، وناضلوا وبذلوا، وفي مقدمتهم الذين استشهدوا وأصيبوا، ومن اجل مصر كل الذين حلموا بها وأعطوا وتفانوا على مدى أزمنة صعبة وعصيبة. إن صيغة الجبهة ضامنة أكثر من أية صيغة أخرى للتضافر من غير تنافر، وللانطلاق والانجاز من غير تعثر وانتكاس. Comment *