علي أن عالما بهذه الصورة الكئيبة المنطوية علي مختلف ألوان التوحش والعنف والإفقار واللا مساواة والقهر .. لا يمكن له أن يستمر طويلا . بهذه الكلمات ينهي الراحل الكبير د. رمزي زكي رؤيته لوضع العالم في نهاية القرن العشرين ويودعه، ثم يودعنا بعد ذلك منذ ما يزيد عن العام بقليل. وهو وضع كما قال كئيب قاس لا يسوده إلا الظلم والقهر والعنف . على أنه لا يساوره الشك في أن هذه القسوة وهذا العنف لا بد أن يؤدي إلى إعادة تشكيل قوى الديمقراطية والتقدم المناهضة لعالم السوق الكونية بوجهها اللا إنساني . فما هو حال القرن العشرين ؟ إنه عصر انفراد الرأسمالية بالسيطرة علي العالم، عصر التناقضات والأزمات الاقتصادية الحادة، عصر المضاربات، إنه ناد كبير للقمار! كما أنه عصر الديناصورات الاقتصادية الهائلة الحجم، وعصر التجمعات القارية الكبيرة، فمن ناحية نجد الولاياتالمتحدة وتوابعها (كندا والمكسيك ) ومن ناحية ثانية نجد المجموعة الأوروبية التي أعلنت وحدتها الاقتصادية والسياسية الكاملة، ومن ناحية أخري هناك الاقتصاد الياباني وتوابعه في جنوب شرق أسيا . وبالرغم من كونه ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إلا إنه يترنح تحت تأثير كساد طويل الأمد وديون مشكوك في تحصيلها تبلغ حوالي 5 .1 تريلون دولار! وهناك الصين العملاق الأصفر الكبير ودوره المتوقع في إدارة شئون العالم الذي مازال قيد المجهول. وفي الزوايا المظلمة تقبع دول العالم الثالث والأخير بلا قدرة أو فعل سوي انتظار قرارات الدائنين والمنظمات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، مكبلة بديونها التي بلغت 1950 مليار دولار، ترقب عاجزة التدهور الكبير في مداخيلها القومية نتيجة لتدهور أسعار المواد الخام ومواد الطاقة مثل البترول. وعوضا عن الوعود الجميلة التي قدمتها الليبرالية الحديثة لشعوب العالم، وبدلا من عالم الرفاه الموعود، فإن مزيدا من البطالة والأزمات والتوترات الاجتماعية والسياسية تجتاح العالم، وتنمو التنظيمات الفاشية والنازية والعنصرية أكثر فأكثر، وتسود عصابات الجريمة المنظمة وتتحكم في عالم كامل مواز لعالمنا وهي النتائج الحتمية لهذا العالم الوحشي الخاضع للرأسمالية الكونية0 .............................................................................. يغطي الكتاب سنوات العقد الأخير من القرن العشرين، وهي نفسها سنوات العقد الأخير من حياة د.رمزي زكي. وهو يضم مجموعة من المقالات والدراسات حول العديد من القضايا الاقتصادية العالمية والمصرية، ورغم تعدد الموضوعات التي يتناولها عبر تلك الفترة الطويلة من الزمن مقاسة بعمر البشر، وعبر هذا الكم من المتغيرات الكبيرة التي حملتها تلك الفترة القصيرة مقاسة بعمر الأمم، إلا أن خيطا واحدا ينتظمها، وهو التأكيد المستمر على الجانب الاجتماعي والإنساني لكل سياسة اقتصادية، وعلى العدالة في توزيع الثروات، سواء أكان ذلك علي مستوى الأفراد أو الأمم. والتأكيد المستمرة على الطبيعة الاجتماعية والإنسانية للعلوم أيا كانت، وتأثيرها علي حياة البشر، خاصة مع علم كعلم الاقتصاد الذي لابد أن ينحاز لمصلحة جماعة علي حساب جماعة أخرى، كان دائما الاختيار الأصعب للمفكرين الذين يحملون، بالإضافة لعمق المعرفة وسبق الريادة، الحب العميق لوطنهم والأمل في خلاصه من محنه. في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، عالم الحرب الباردة وظهور المعسكر الاشتراكي، ظهرت دول الرفاه الاجتماعي في المعسكر الرأسمالي، وحققت الطبقة العاملة والتكنوقراط والانتليجنسيا فيه مكاسب اجتماعية وسياسية هائلة، تمثل ذلك في حقوق ساعات العمل والتأمينات الاجتماعية والصحية والتقاعد ودعم المواد التموينية للفقراء ومحدودي الدخل، وتقديم الخدمات العامة بأسعار معقولة، كما تمثل في ظهور منظمات العمل المدني ذات القوة الكبيرة في التأثير وتوجيه الرأي العام. كان ذلك ببساطة لأن الرأسمالية لم يعد لها الهيمنة المطلقة علي العالم. وتزايد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي طبقا للسياسة التي وضعها "لورد كينز" في أعقاب الكساد العالمي الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، ذلك التدخل الذي استهدف التوظيف الكامل للموارد والعمل والتحكم في السوق والمنتجين لضمان الأمن الاجتماعي، أو ما يمكن إجماله باختصار بالمصالحة التاريخية بين العمل ورأس المال، تحت رعب تهديد وجود الاشتراكية وأنظمتها المسيطرة علي ما يقارب نصف العالم. استند الاقتصاد العالمي في العصر الذهبي لاستقراره علي الأسس التي تم وضعها في مؤتمر مدينة بريتون وودز الأمريكية في صيف 1944، ومن هذا المؤتمر ولدت المؤسسات التي قادت الاقتصاد الرأسمالي العالمي في الفترة من 1945-1970، وهي الفترة التي شهدت ازدهارا اقتصاديا لامعا. هذه المؤسسات هي صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، والاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة المعروفة اختصارا بالجات. كان الأساس القوي لاستقرار وثبات نظام النقد والاقتصاد العالمي هو اتخاذ الدولار الأمريكي كعملة دولية بسبب قابلية تحويله إلى ذهب، على أساس سعر صرف ثابت يبلغ 35 دولار للأوقية! مع قيام الصندوق بتوفير السيولة اللازمة لأعضائه حين حدوث عجز مؤقت بالميزانية أو ميزان المدفوعات. ولكن مع تنامي قوة الليبراليين الجدد ودعوتهم للتحول نحو نظام تعويم العملات، رفعت الولاياتالمتحدة الغطاء الذهبي عن الدولار عام 1971. فانهار عصر ثبات سعر الصرف وانهار معه نظام النقد الدولي الذي تأسس في ضوء "اتفاقية بريتون وودز" وقفز سعر أوقية الذهب ليصل على 850 دولار خلال ثماني سنوات، ثم عاد ليتراوح ما بين الثلاثمائة والأربعمائة دولار فيما يلي ذلك، أي عشرة أضعاف سعره عند لحظة تركه للمضاربين. وانطلقت الشياطين وتشكلت ثروات هائلة من المضاربات علي أسعار الصرف، واشتعلت حمى المضاربات العالمية، ولم يعد الاستثمار مجزيا في قطاعات الإنتاج المادي (الصناعة والزراعة) مقارنة بمعدلات الأرباح في المضاربات، وزادت البطالة وارتفعت إلى معدلات قياسية. وازداد تراكم الأموال دون فرص استثمار تقابله مما خلق فوائض هائلة من رؤوس الأموال تهيم علي وجهها، بحثا عن الأرباح دون حساب لما ستخلفه من دمار لاقتصاديات دول بأكملها. ونتج عن اندماج أسواق المال والنقد الدولية وسرعة الاتصال فيما بينها عبر شبكات الكمبيوتر انفلات السيطرة عليها. كان دخولها لبلد ما يعني فقدان هذا البلد سيطرته على مستوى عرض النقود والأسعار، بينما خروجها المفاجئ منه يحدث ضغطا علي سعر الصرف وعلي الاحتياطيات الدولية وميزان المدفوعات. وازدادت عناصر الخطر في الاقتصاد العالمي بسبب التغيرات الفجائية في أسعار الصرف والفوائد والمواد الأولية ، ولم يعد التنبؤ ممكنا بمساراته، وتتالت الأزمات: أزمة المديونية الخارجية للبلاد النامية 1982، الانهيار المفاجئ لبورصة الأوراق المالية في نيويورك 1986،أزمة النمور الآسيوية 1987، أزمة كساد الاقتصاد الياباني. فما هو حال مصر في خضم هذه التغيرات العالمية والفوضى الكبيرة؟ يتبع نشر في مجلة وجهات نظر Comment *