تظل الثورة العرابية (9 سبتمبر 1881)، إحدى ملاحمنا الكبرى، التي لابد أن نرويها دائماً، ففيها جرؤ فلاح مصري أن يقف شاهراً سيفه في وجه الاستبداد الشرقي والاستعمار الأوروبي معاً، لينتزع بالقوة حقوق شعب مقهور، كان يقف وراءه بحشوده وطليعته المسلحة وطليعته المثقفة الواعية، كانت حدثاً من أحداث القرن، ولم يكن عرابي فلاحاً مقهوراً يحمل فأساً ضد عدوه، لكنه كان زعيماً وطنياً ثورياً وعصرياً، يحارب أوروبا بنفس مبادئها، طالب لشعبه بنفس حقوق الإنسان وحقوق الشعوب التي ادعت أنها تعترف بها للجميع، وقرر أن يحارب لانتزاعها. وكان القرن التاسع عشر عصر القوة البحرية، تقاس فيه الدول بمدى مدافع أساطيلها وقدرتها على التحكم في البحار والمحيطات، وبعد صراع طويل دامي استمر منذ القرن الخامس عشر، اشتبكت فيه كل دول أوروبا، خرجت فيه بريطانيا سيدة للبحار، ولهذا سيدة العالم. وكانت معركة مصر هي أول مواجهة في القرن التاسع عشر بين الإمبراطورية البريطانية وبين ثورة وطنية، لذلك لم تكف هيبة الامبراطورية وكل مدافع الأسطول لتخضع بلداً في الشرق هو مصر. لأن المقاومة كانت مستميتة ومختلفة، لم يفتقد المصريون إلى كفاءة التخطيط أو شجاعة التنفيذ، ولم يفرطوا في شبر واحد بغير قتال مستميت، ولم يخسروا إلا بعد ان تدخل عامل أخير حاسم لم يضعوه قط في حسابهم، هو "الخيانة" أو "الولس" كما كان يطلق عليها شعبياً. فبعد انتصار جيش عرابي على جيش الامبراطورية في معركة "كفر الدوار"، كانت هيبة الامبراطورية البريطانية على المحك، حيث استمرت المعارك طوال شهر بعد أن كان مقدراً لها يوم واحد فقط، تأكد البريطانيون خلالها أن المصريين سدوا طريق نابليون أمامهم، وقال بلنت: "لو كان طريق كفر الدوار هو المدخل الوحيد لمصر لكسب المصريون الحرب"، وعين قائد جديد للحملة على مصر هو السير "جارنيت ولسلي" أحد كبار قادة الإمبراطورية واستدعيت قوات بلغت 56 ألف جندي لتكون تحت إمرته، وبدا البحث عن طريق آخر إلى القاهرة. كان "الخطر من الشرق" قاعدة تقليدية في الاستراتيجية المصرية، لم تكن غائبة عن اهتمام القادة المصريين، فلم يغفل نشوب الحرب على الجبهة الغربية من أهمية الشرق، وكان هناك قلق من احتمال قيام البريطانيين بالهجوم على الجبهتين، ومنذ اشتدت الأزمة وقدمت الانذارات ووصلت الأساطيل في مايو 1882، اتجه الاهتمام إلى تأمين الجبهة الشرقية، وخلال العمليات في "كفر الدوار"، دعت لجنة الدفاع الوطني في القاهرة إلى اجتماع خاص للمجلس العرفي تقرر فيه أن تأمين الجبهة الشرقية أصبح ضرورة استراتيجية عاجلة، وأن أفضل وسيلة لهذا بل الوسيلة الوحيدة هي تعطيل قناة السويس في أسرع وقت، وألا يلتفت بأي حال لما يمكن أن تثيره فرنسا أو أوروبا من احتجاجات لأن المسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، ولا تحتمل المساومة أو التأخير. صدرت هذه القرارات بالإجماع، وأرسلت إلى كفر الدوار حيث وزير الحربية وأركان حرب الجيش للتصديق قبل التنفيذ، لكن عرابي ومحمود فهمي اعترضا على توقيت التنفيذ، ورأيا أن يكون مشروطاً بوقوع إنزال أو عدوان بريطاني على أي موقع في القناة. لم يمكث الجنرال ولسلي طويلاً في الإسكندرية، وغادرها على رأس أسطول كبير متجهاً إلى بورسعيد وقرر الإسراع بالمفاجأة، وبدأ تحول الحرب إلى الشرق، ودعت لجنة الدفاع الوطني إلى اجتماع عاجل للمجلس العرفي، وتقرر أن ينتقل محمود باشا فهمي على الفور إلى الجهة الشرقية لتحصين وتعزيز خطوط دفاع تلك المنطقة المكشوفة، وكانت شهرته قد اصبحت عالمية، بعد ان استطاعت خطوطه واستحكاماته أن تصد الإنجليز وتردهم عن كفر الدوار، وتقرر أن يسير على باشا فهمي فوراً على رأس جيش يتكون من كل القوات التي خصصت للدفاع عن القاهرة إلى القناة ويحتل مدنها، ويواجه اي إنزال أو عدوان. وأرسلت قرارات المجلس إلى كفر الدوار للتصديق، ووافق الجميع بلا استثناء، وقبل ان يتم التوقيع وصلت رسالة أخيرة مستميتة من ديلسبس تقول: "أرجو ألا تقوم بأي عمل يعطل القناة، إنني هنا في بورسعيد ولا تخش شيئاً قط، لن ينزل جندي بريطاني واحد إلا وفي ظهره جندي فرنسي، وأنا أضمن هذا وأعتبر نفسي مسئولاً عنه". تصور عرابي أن التدخل الأوروبي المسلح قد بدأ، وتردد في التصديق، وطلب إعادة مناقشة الموضوع، ولم يتوقف زحف الجنرال ولسلي، ووصل إلى بورسعيد يوم 20 أغسطس 1882، ولم يظهر هناك أي أثر لأساطيل فرنسية تلاحقه أو قوات تشرع حرابها في ظهر كل جندي بريطاني، وبعد أن تكشفت الخدعة دعي لاجتماع طارئ عاجل، انتهى إلى صدور الأمر بنسف المواقع الأربعة: (رأس العش وسنيل والقنطرة والشلوفة)، وحينما وصل الأمر بالتنفيذ كان الوقت قد فات، حيث استطاع ولسلي أن يصل إلى الإسماعيلية وأن ينزل قوات بلغت ثلاثين ألفاً هناك، ووصلت القوات الهندية إلى ميناء السويس، وشرعت في احتلال المدينة. كان سباقاً مع الزمن كسبته بريطانيا بخدعة. وهللت الصحف البريطانية لاحتلال الإسماعيلية، وتباهت بالعمل العسكري البارع الذي جعل الدفاع عن القاهرة مستحيلاً ومهمة يائسة إذا ما حاوله عرابي، ودعته إلى التسليم. وكانت ضربة قاصمة، وألقيت المسئولية كلها على عرابي وحده، وكان صديقه الحميم بلنت أشد الناس لوماً له: "كان تردد عرابي هو السبب، وهو أشد لطمة لسمعته الاستراتيجية ولبراعته السياسية، ومع ذلك لن تصبح مهمة ولسلي نزهة عسكرية".. للحديث بقية Comment *