صدر، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، "الأعمال الشعرية الكاملة" للشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو، من ترجمة وتقديم الشاعر رفعت سلام. ويقع الكتاب في 650 صفحة من القطع الكبير، متضمنة ملفا يحمل عنوان "وجوه رامبو"، لصور رامبو في مراحل حياته المختلفة، منذ طفولته حتى وفاته، ورسومًا قام برسمها أو رسمها له أصدقاء وفنانون كبار، من بينهم "فيرلين"، و"ليجيه" و"بيكاسو". يؤكد سلام، أن ترجمة الشعر تأويلٌ ما، قراءة، احتمال، بلا يقين، شأن الشعر ذاته. فالنص الشعري- في لغته الأصلية- مفتوحٌ على التأويلات والقراءات والاحتمالات؛ أي على التعددية. ويضيف، وكل ترجمة لهذا النص هي أحد هذه التأويلات والقراءات والاحتمالات اللا نهائية، التي لا تكتمل إلا بتعددية ما، لا يمكن التنبؤ بحدودها، بلا أحادية. ذلك ما يفرضه- بصورة جبرية- ثراء وخصوبة النص، لا الإرادة الفردية، الذاتية، لهذا المترجم أو ذاك (الذي يتمنَّى- أو قد يتوهم- أن ترجمته هي "الأرقَى"، بما يفرض أن تكون "النهائية"، "الأخيرة"). ولد ورامبو في 20 أكتوبر 1854، وفي 2 يناير 1870، نشرت La Revue pour tous قصيدة رامبو "هدايا الأيتام في رأس السنة"، أولى قصائده (التي كان قد كتبها في نهاية العام السابق، وعمره أقل من خمسة عشر عامًا). وفي 14 أكتوبر 1875، كتب رامبو رسالته إلى ديلائي التي تضم آخر ما كتب شعرًا (قصيدته "حُلم")، ويعتبرها النقاد والمحققون بمثابة "الوداع" للشعر (وعمره يشارف الواحد والعشرين عامًا). وبين التاريخين الأخيرين- أي حوالي خمس سنوات- أنجز رامبو، بصورة خاطفة، ما لا تكفي أعمارٌ لإنجازه، وما تلهث من أجله أجيالٌ من الشعراء. في 15 مايو 1871- وهو في السادسة عشرة من عمره تقريبًا- كشف رامبو، في رسالته إلى صديقه بول دوميني، عن انتهائه من تصفية الحساب مع الماضي الشعري الفرنسي كله، بصورة صارمة، ساخرة، لكن نهائية وقاطعة. وكشف- في نفس الرسالة- عن توجهه القادم، لتجاوز ذلك "الوضع الراهن"، وتحديد الطريق الخاص به؛ طريقه الفريد الذي لم يطأه شاعر من قبل، والذي قد لا يتسع لسواه. ويقول سلام: ما أطول الطريق الذي قطعته أعماله إلى أن تم تجميعها، وما أعظم الجهد والاكتشافات المتوالية. كراسة إيزامبار، كراستا دوميني، ملف ڤيرلين: ثلاثة مصادر أساسية لأعماله الشعرية. كان ينسخ قصائده بنفسه، ويقدمها لأقرب أصدقائه. ومن هذه الكراسات، تم تشكيل الكتلة الأساسية من شعر رامبو، وخاصةً القصائد. والمصدر الثاني المهم لأعمال رامبو يكمن في رسائله إلى الأصدقاء أو المجلات، المرفقة- في كثير من الحالات- بنصوص قصائده. وما أندر القصائد المنشورة في دوريات أو مطبوعة، خلال حياته. هكذا لملم المحققون قصائد رامبو- واحدةً واحدةً- من هنا وهناك، على مدى قرن ونصف من العمل الدءوب، المدقق، المحقِّق، إلى أن اكتملت "الأعمال الكاملة"، على نحوٍ يدعو للإعجاب، وبعض الحسد الثقافي المشروع. ويقر المترجم بفضل الآخرين: هؤلاء المترجمين والكتاب السابقين، الذين اكتشفوا لنا- منذ عقود- رامبو، وجاهدوا واجتهدوا في ترجمة أعماله وتقديمها- وتقديمه كشاعر غير عادي- إلى القارئ والثقافة العربية؛ هؤلاء الذين حافظوا- أيضًا، في نفس الوقت- على حضور اسم "رامبو" في ثقافتنا، على مدى أكثر من نصف قرن، بما قدموه- بين الحين والحين- من إضاءات ونصوص وأعمال تتعلق به. ويخص سلام بالذكر كتاب صدقي إسماعيل عن "رامبو"؛ هذا النمط الفريد المندثر من الكتابة الجميلة في السيرة الذاتية؛ تلك الكتابة التي تمزج- في لغة مرهفة وبسيطة ودافئة- بين الشعري والشخصي، على نحو يفتح الشهية الذهنية إلى مواصلة البحث عن الشاعر، في أعمال أخرى. كتابة مُحبَّة، بلا ادعاءات؛ مخلصة، بلا ذاتية. كذلك يذكر كتاب "ثورة الشعر الحديث" للدكتور عبد الغفار مكاوي، الذي أضاء له، وربما لجيله الشعري ككل- في الوقت المناسب تمامًا- التجربة الشعرية لرامبو، مع غيره من الشعراء الفرنسيين الكبار في القرن التاسع عشر. ولعل الفصل المخصص لرامبو- في ذلك الكتاب- أن يكون أهم ما كُتب بالعربية عن الشاعر الفرنسي إلى الآن، بتواضع وإحاطة العلماء، ورهافة الوعي والأسلوب؛ دون إغماط حقه في تقدير ما تضمنه من ترجمات لبعض نصوص الشاعر الفرنسي الصعبة، ومن بينها "المركب السكران"، وبعض نصوص "فصل في الجحيم" و"إشراقات". وتضم الترجمة لأعمال رامبو نصوصًا شعرية- ليست قليلة العدد، ولا محدودة الأهمية- لم يسبق ترجمتها إلى العربية، حتى الآن. ومن بين هذه النصوص مساهمات رامبو الشعرية فيما يُعرف ب"الألبوم الملعونAlbum Zutique"، من قصائد ساخرة، تهكمية، معارضة لقصائد أهم شعراء تلك الفترة. ذلك أحد وجوه رامبو الشعرية في أقصى تجلياته. ولم يكن ممكنًا- رغم الصعوبات الاستثنائية لترجمة التلاعبات اللفظية- أن يتم التغاضي عن هذه النصوص، أو حذفها مما نقدمه للقارئ من أعمال "كاملة". من بين هذه النصوص الشعرية أيضًا نصوصه الإباحية فيما يُعرف- في أعماله الكاملة الفرنسية- ب"البذاءات أو الإباحياتLes Stupra"، التي تمثل- بدورها- وجهًا آخر شعريًّا لرامبو، لم يسبق ترجمته عربيًّا من قبل. ومن بين هذه النصوص أيضًا قصيدته الأخيرة التي ودع بها عالم الشعر، بصورة نهائية مطلقة. ويُفرد المحققون الفرنسيون لهذه الأعمال أقسامًا مستقلة ضمن أعمال رامبو الكاملة (وهو ما التزمنا به أيضًا). وقد احتفى السيرياليون احتفاءً خاصًّا بهاتين المجموعتين من نصوص رامبو الشعرية، كلما تم العثور على نص منها، وقام أندريه بروتون ولوي أراجون بنشرها تباعًا في المجلة التي كانا يشرفان عليها Littérature. إذن، فلنصوص رامبو - التي قد يراها البعض "غرائبية" أو "عبثية" عابثة- قيمة مؤكدة، وإن تكن مغايرة- غير تقليدية- تفرض احترامها وإدراجها ضمن أعماله الشعرية الكاملة، رغم- أو ربما بسبب- خروجها على المألوف، ورغم الصعوبات الجمة في ترجمة بعضها. فالدلالة- في هذه الأعمال- لا تكمن في "المعنَى" المباشر، بل في أفق آخر. Comment *