نقيب المحامين: أوهام "إسرائيل الكبرى" تعيد إحياء أطماع استعمارية بائدة    عميد كلية الصيدلة بجامعة الجلالة الأهلية تعلن عن مميزات برنامج "Pharm‐D"    وزير الخارجية: الحفاظ على الأمن المائي المصري لن يضر المصالح التنموية لدول حوض النيل    جولة ميدانية لرئيس شركة مياه الإسكندرية لمتابعة الأداء وتحسين مستوى الخدمات    وزير الخارجية يؤكد علي أهمية تعزيز التواجد الاقتصادي المصري في القارة الإفريقية    جيش الاحتلال: مستمرون في استخدام القوة لتفكيك سلاح حزب الله    البرهان متمسكا بدحر الدعم السريع: لا مهادنة ولا مصالحة    لقطات من وصول وسام أبو علي لأمريكا للانضمام لفريق كولومبوس كرو    الداخلية تكشف ملابسات فيديو لأشخاص مقيدة في سيارات نقل حال سيرها بالمنوفية    الحفاظ على النيل.. لقاء توعوي لذوي الهمم ضمن فعاليات قصور الثقافة    ناقدة فنية عن أزمة أحمد عبد العزيز مع معجب: الفنان ليس ملكية عامة بالكامل    نجاح جراحة نادرة لتركيب مفصل فخذ لمريض عمره 105 أعوام بمستشفى العجوزة    حالة الطقس غدا الجمعة 15-8-2025 في محافظة الفيوم    تأهل 4 مصريات لنهائي السيدات ببطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 عاما    السبت.. عرض أولى حلقات حكاية "بتوقيت 28" على dmc    السكة الحديد: خفض مؤقت لسرعات القطارات بسبب ارتفاع الحرارة    تسليم لجان امتحانات الدور الثاني بالثانوية العامة لرؤسائها استعدادًا لانطلاقها السبت    رسميًا.. جدول امتحانات الثانوية العامة الدور الثاني 2025 كامل pdf    وزير الإسكان: 18 و19 أغسطس الجاري..إجراء 3 قرعات علنية لتسكين المواطنين بأراضي توفيق الأوضاع بالعبور الجديدة    بماذا نأخذ سياسة هذه الجريدة؟    الزمالك يصرف مقدمات عقود لاعبيه للموسم الجديد ويعد بالانتظام في المستحقات    من مقاومة الاحتلال والملكية إلى بناء الإنسان والجمهورية الجديدة.. معارك التنوير مستمرة    25 ألف.. هل سيتم سحب فيلم "المشروع X"؟    عاجل.. الأهلي يتجه لطلب حكام أجانب لمباراته أمام بيراميدز بالدوري    اليوم.. آخر موعد لحجز شقق الإسكان الأخضر 2025 في 9 مدن جديدة (تفاصيل)    طريقة عمل الكيكة العادية فى البيت بمكونات اقتصادية    مستشفى صحة المرأة بجامعة أسيوط تنظم برنامجا تدريبيا عن معايير GAHAR للسلامة    قصور الثقافة بالمنيا تحتفي بوفاء النيل بعروض الفنون الشعبية    أسامة نبيه: حققنا مكاسب كثيرة من تجربة المغرب    الرقابة المالية تصدر معايير الملاءة المالية للشركات والجهات العاملة في أنشطة التمويل غير المصرفي    علشان يسرق فلوسه.. قليوبي ينهي حياة جاره المسن داخل منزله    إسرائيل تحذر لبنانيين من الاقتراب إلى مناطقهم الحدودية جنوب البلاد    بسبب خلافات أسرية.. الإعدام شنقاً للمتهم بقتل زوجته وإضرام النيران في مسكنهما بالشرقية    إي إف جي القابضة تواصل مسيرة النمو الاستثنائية بأداء قوي خلال الربع الثاني من عام 2025    الائتلاف المصري يستعد لمراقبة انتخابات الإعادة: خطط عمل وأدوات رصد للتنافسية داخل 5 محافظات    خارطة طريق للمؤسسات الصحفية والإعلامية    قرار قاسي في انتظاره.. تفاصيل عفو الزمالك عن فتوح وشرط جون إدوارد    «عيب يا كابتن».. هاني رمزي يرفض دفاع جمال عبدالحميد عن جماهير الزمالك في أزمة زيزو    عمر الشافعي سكرتيرًا عامًا وإيهاب مكاوي سكرتيرًا مساعدًا بجنوب سيناء    الليلة.. انطلاق فعاليات الدورة الثالثة من «مسرح الغرفة والفضاءات» بالإسكندرية    السيسي يوجّه بتحويل تراث الإذاعة والتلفزيون المصري إلى وسائط رقمية    ما حكم اللطم على الوجه.. وهل النبي أوصى بعدم الغضب؟.. أمين الفتوى يوضح    بيان رسمي.. توتنهام يدين العنصرية ضد تيل بعد خسارة السوبر الأوروبي    شقيقة زعيم كوريا الشمالية: لا نرغب فى تحسين العلاقة مع الجنوب.. وتنفي إزالة مكبرات الصوت    سعر الأسمنت اليوم الخميس 14- 8-2025.. بكم سعر الطن؟    «الأعلى للطاقة» يناقش توفير القدرة الكهربائية ل14 مشروعًا صناعيًا جديدًا    ضبط موظف بمستشفى لاختلاسه عقاقير طبية ب1.5 مليون جنيه    الداخلية تضبط عدة تشكيلات عصابية تخصصت في السرقات بالقاهرة    فرنسا ترسل تعزيزات لدعم إسبانيا في مكافحة الحرائق    رئيسة القومي للطفولة تزور الوادي الجديد لمتابعة الأنشطة المقدمة للأطفال    ريبيرو يراجع خطة مواجهة فاركو في المران الختامي للأهلي    مع اقتراب موعد المولد النبوي 2025.. رسائل وصور تهنئة مميزة ب«المناسبة العطرة»    100 منظمة دولية: إسرائيل رفضت طلباتنا لإدخال المساعدات إلى غزة    خالد الجندي: حببوا الشباب في صلاة الجمعة وهذه الآية رسالة لكل شيخ وداعية    «100 يوم صحة» تُقدم 45 مليونًا و470 ألف خدمة طبية مجانية في 29 يومًا    أدعية مستجابة للأحبة وقت الفجر    التايمز: بريطانيا تتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية فى أوكرانيا    في ميزان حسنات الدكتور علي المصيلحي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحاس راضي يكتب : رغيف زين العابدين فؤاد .. قراءة في قصيدة "أغنية للصباح"
نشر في البديل يوم 23 - 08 - 2012


أغنية للصباح ..
شعر زين العابدين فؤاد
يسعد صباحكم
ياللي تستنوا الصباح مني
قاعد وباستنظر، حبال صوتكم
تدخلني في بيوتكم
تطعمني من قوتكم
ترجعني فوق مهره محنيه ، وبتغني
يسعد صباحكم،
ياللي تستنوا الصباح مني
صوتي، نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح رغيف، رغيف
يشبع اللمه
صوتي، نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح فرس رهوان
يصبح مرايه، مرايه
علي صدرها الألوان
ترسم بيوت، خضرا
ترسم غيطان بكره
تكتب لنا العنوان
تصبح قنايه، قنايه
تتمد، للعطشان،
بدراع، وكباية
نشرب سوا منها،
نطرح جناين
مداين
نتلم، ونغني
يسعد صباحكم
ياللي تستنوا، الصباح، مني
سجن الاستئناف\باب الخلق
يناير1972،
من ديوان الحلم في السجن
1
يمثل "الصَّباح" أو "الصُّبح" لحظة "شعرية" متميزة في قصائد زين العابدين فؤاد، وعالما خاصا قائما بذاته، وربما في الحياة اليومية للشاعر أيضا.
وقد نرى ذلك، ليس في هذه القصيدة التي بين أيدينا فحسب، بل نراه في الكثير من قصائده، إن لم يكن أكثرها، إذا وضعناها بعضها إلى جوار بعض حيث يمكن أن تتسعَ رؤية قارئه لعالمه ونصِّه الشعريين.
وقد احتفى زين العابدين فؤاد ب "الصُّبح" احتفاءً لا تخطئه ذائقة قارئه، يدلنا إلى ذلك فضلا عن وقوفه باستمرار أمام هذه اللحظة في الكثير من قصائده عناوين العديد من قصائده، فمن أغنية للشمس، وشمس الصبحية، إلى قهوة الصبحية، مرورا بأغنية للصباح، وغيرها من القصائد التي حملت عنوان الصباح ومترادفاته ومعانيه.
نحن أمام شاعر تحمل كلمة الصباح ومترادفاتها لديه العديد من المعاني، والرموز، والدلالات الاجتماعية والثقافية والزمنية، إضافة إلى الإحالات التي يحيلنا إليها الشاعر.
فالصباح أو الصُّبح يشكل لحظة "خاصة"، لها موسيقاها، وألوانها، ودفقتها الشعورية، ومضامينها الروحية والمادية أيضا، إذ يطرَبُ الشاعر في أكثر قصائده للصباح، ويبتهج له، ونكاد نراه ينتظره ويترقبه، يتأمله ويناجيه، بل يتعشقه ويتغزل فيه، أو في ما وراءه، في إعلاء صريح للكثير من المعاني التي يوحي بها "الصبح" أو يشير إليها، أو يكون مرادفا لها.
يفرح زين العابدين فؤاد بالصبح أو الصباح على نحو خاص، وهذا ما نستطيع أن نجده، ونتفهمه على نحو أوضح عندما نضع قصائده بعضها جوار بعض. وقد أستعير من أمين حداد "ده جنب ده، جنب ده، جنب ده"، أي عندما نضع قصيدة إلى جانب قصيدة، وبيتا في قصيدة إلى جوار بيت في قصيدة أخرى، عندئذ نستطيع أن نتأمل، ونكتشف، ونرى، وأن نفهم ببساطة وفي عمق ما يريد الشاعر أن يوصله إلينا من "رسائل".
من "يا شمس ياللي هالّة/يا حبنا الحلال" إلى "قهوة الصبحية"، مرورا ب "أغنية إلى عمال المحلة" التي كتبها في سجن طره، في مارس 1975:
تطلع جيوش الفقرا، مع شمس الصباح
ترفع رايتها كل يوم في مدينه
وفي آخر بيتين من القصيدة:
تطلع جيوش الفقرا، مع شمس الصباح
ترسم خريطة مصر
فالصباح أو الصبح، بما فيه من إحالات أو دلالات "تراثية" يعني لديه لحظة اندحار واستسلام جيوش الظلام أمام جيوش النور، ولحظة النهار عندما تنتصر على الليل، والعتمة عندما تتبدَّد أمام بقعة الضوء، ثم هو "الحقيقة" في أوضح تجلياتها وإشراقاتها، الصباح لديه هو "الحقيقة" الناصعة الواضحة المشرقة التي يتبناها الشاعر، ويرفعها راية، بل ويجسدها "كلمة/فعلا" في قصائده الثورية.
إنه الصًّبح لحظة النقاء والطهارة والبكارة والوضوح والانكشاف والتجلي، وهي لحظة الصدق التي يعيشها الشاعر مرادفا لكلمته الشعرية:
أكسر ضلعي
لو كلمة غش تبات جواه
فهل في لحظة انبلاج الصبح كذب، أو ضلالة، أو تدليس؟ وهل يكون النهار غَاشّاً وفيه النور الكاشف للأشياء؟!
2
إذا لم نقف عند معاني الكلمات ودلالاتها ورموزها، وتجاوزناها إلى الصور، فإننا نستطيع أن نرى "التشكيل" و"الإيقاع" في لحظة إشراقة الشمس، وتجليات ضوء النهار التي يتفاعل معها زين العابدين فؤاد، فيرى فيها أو يسمع!! تكوينات ضوئية، ويسمع فيها أو يرى!! موسيقى، وألوانا، وأصواتا، وإيماءات وإشارات ونداءات، كله في مزيج بين "الكوني" و"الإنساني"، و"تضفير" ما هو عام بالخاص، والموضوعي بالذاتي أو الشخصي، في رحلة بحث دائم للشاعر عن لحظة التنوير، أي لحظة الخروج أو النهوض "الجماعي" نحو الفعل الثوري (نتلم، ونغني).
نحن أمام قصيدة تبدأ سطورها وأبياتها، مع بداية يوم جديد، يدخل على الشاعر بشمس "جديدة"، ترسل خيطا من خيوط أشعتها إلى زنزانة السجن، فيوقظ الشاعر الذي يفتح عينيه على الشمس تحييه، عبر شباك زنزانته، فيرد تحية الصباح، لتكون أولَ ما يبدأ به نهاره الجديد:
يسعد صباحكم ياللي تستنوا الصباح مني..
إنهم "أصدقاؤه"، أول من يتذكر الشاعر مع خيط الشمس الذي تسلل إلى نافذة زنزانته، أو مع الضوء الذي تركه شعاع الشمس على النافذة المحرومة من شمس النهار!
3
"الصباح" وأغنياته تشكل منظومة متكاملة يردُّ بعضها على بعض، ويؤيد بعضها بعضا، معضّدا رؤية الشاعر. ولن نستطيع أن "نقرأ" القصيدة بعمق إذا نظرنا إلى قصيدة "أغنية للصباح" بمعزل عن الكثير من قصائده التي تفسر لنا موقف الشاعر الفكري والسياسي والفلسفي والإنساني والفني، و... الثوري.
إشراقة "الصبح" لدى الشاعر لحظة خاصة يعرف كيف يستقبلها كما يستقبل أصحابه وأصدقاءه.
هي لحظة التوحد والتواصل مع "الإنساني" و"الخاص" في حياة الشاعر ومواقفه، خصوصا عندما يكون في زنزانته، أي عندما يكون وحيدا، فإذا به يستدعي الأصدقاء والأصحاب، ليواجه بهم وحدة الزنزانة وبرودتها، ومعهم أصحابه يقهر لحظة السجن التي أراد سَجّانُه أن يزرعها داخله، فإذا به يقهر السجن والسجان، وهو لا يزال في محبسه، وفي سجنه الانفرادي!
"الصبح" لقاء بباقة الصحبة والأصدقاء، حيث يشعر معهم بإنسانيته، ويحسُّ في "اللمَّة" بتحققه "إنسانيا"، وفي الصباح التفاؤل بشيء "ما" يأتي بالتغير، أو للدقة التغيير، وبينهما فرق كبير، ثم الصباح لديه هو التفتح، وفيه ما هو أكثر وأهم: البشارة، والأمل، ودائما يرى فيه الجديد والسَّار.
جملة اعتراضية
لا أستطيع أن أنسى هنا إشراقات "الصباح"، عندما نقرأ قصيدته التي تبدأ ب "يا شمس يا للي هالّة، يا رزقنا الحلال".. وهي تنطوي على قدر كبير من الابتهاج والفرح بالشمس، والترحيب بها، فهي رمز الصباح ونوره، وفيها من التغني بفضائل الشمس وتجليات ثمارها في الحياة اليومية للناس، وكيف ينتظرها السجناء السياسيون بشوق.. هو كتبها في السجن أيضا، والشمس للسجين أي سجين تعني فرحة، فما بالنا بشاعر؟ ثم ما بالنا بزين العابدين فؤاد الذي تقول معه "يسعد صباحكم ياللي تستنوا الصباح مني"، فتستدعي بها إلى ذاكرتك كلَّ مفردات الصباح "القاهري" بأصواته وحركته، بضجيجه وزحامه، بصوره وطقوس شوارعه التي تمتلئ بشيوخ ورجال ونساء يسعون إلى أعمالهم، وأولاد وبنات يذهبون إلى مدارسهم، وفتيات وشباب يتجهون إلى جامعاتهم، وباعة ينادون على بضاعتهم، ومشاجرات ما تكاد تنشب حتى تفضَّها "حصل خير" و"ما محبّة إلا بعد عداوة".. والكل يملأ شوارع القاهرة بحيوية تتميز بها القاهرة عن غيرها من عواصم الدنيا، وعين الشاعر ترصد، وقلبه معلَّق بمدينته.
4
وراء الصورة، قد ترى وقد تحسُّ الصبح في لحظة طلوعه من وراء الأفق، وإذا ما تطلعت ببصرك وأطلقتَ لِعَينَيْ خيالِك أن ترى وتبصر، فإنك لا ريب تحس بالصبح يتنفس، بما لها من عمق روحي أو ديني، ودلالة "قرآنية"، وبما تنطوي عليه من دلالات وإيحاءات وإشارات ترتبط بعمق ثقافته الموسوعية التي وإن كانت مفتوحة على التراث العالمي، إلا أنها عميقة الارتباط ببيئتها وجذورها الضاربة في الوجدان والروح، وقد تشي بمسحة من الصوفية، وقد نرى لظهور الشمس أو الخروج إليها لحظة تشبه احتفاء الطفل بيوم العيد، بل بصباح يوم العيد..
لكنَّ زين العابدين فؤاد
قاعد وباستنظر ، حبال صوتكم
حبال صوتكم، أي مزاوجة في الحبال المفتولة من الخيط، وتلك الأحبال الصوتية، هو لا يأخذ من التسمية التشريحية سوى بعض حروفها، لكنه يقدم لنا معنى جديدا تماما ومبتكرا، بل وفريدا، هو في زنزانة تطل على ميدان باب الخلق، أحد ميادين قاهرة المعز، وهنا تستفز الصورة الشعرية في القارئ ذاكرته البصرية، وتستدعي لديه مشاهد الصباح القاهري، بكل مفرداته ومكوناته، الضوضاء وحركة الجموع.. إنه الشارع القاهري عندما يصحو من نومه، ينفض عنه تثاؤبه، وينهض ساعيا إلى الرزق الحلال!
"النون" وديالوج السجن!
ها نحن مرة أخرى أمام نون الجماعة.. وكما ذكرنا، في قراءة سابقة ل "قصايد مباشرة" التي قدمنا من خلالها "المفاتيح" الأساسية للدخول إلى عالمه الشعري، والملامح الرئيسية للغته الشعرية نجده لا يتحدث سوى بالنون، التي لا يخرج عنها الشاعر في قصائده إلا نادرا، وقليلا ما سوف نضبطه متلبسا بتقمص "الذات"، أو واقعا في لغة الأنا أو في مفرداتها، على الرغم من أن الشعر فن "ذاتي" أو هو "فردي"، وعلى الرغم من أن أكثر الشعراء ينغمسون في عشق ذواتهم، ويبررون لأنفسهم فعل "النارجسية"، كما يبررها لهم النقاد، إلا أن شاعرنا ينطلق من رؤية مغايرة، حيث لا يغفل عن إدراك قضيته الأساسية، التي يرى نفسه في "قلبها"، واحدا في الكل، وواحدا يجد الكل فيه..
وتأمل هذه القصيدة التي بين أيدينا: تكتب لنا العنوان/نشرب سوا منها/نطرح جناين/نتلم ونغني/
مفرداته في القصيدة تمثل إحياءً لروح "الجماعة" ولا وجود لضمير "المتكلم"، ربما إلا في حالة تواصله مع الجماعة، أو اتصاله بها وحواره معها.
هو في السجن، وحيد، لكنه لا يسمح لاثنين أن يستغرقاه، أولهما السجن، وثانيهما الذات، لكنه يتفوق عليهما ويغلبهما بحجر واحد يلقيه في دوامة "الوقت"، إنه "الديالوج" الذي يصنعه بين السجين وجماعته خارج السجن، ولو أقام "مونولوجا" في سجنه، حيث يقيم في زنزانة بمفرده، ما لامه أحد، بل وربما راح بعض النقاد يبحث عن تجربة السجن في شعره، بل ولربما كان يبحث عن مبررات لهذه "الذاتية" ويفلسفها، ويُعَدِّدُ تجلياتها في قصائده.. لكن زين العابدين فؤاد يقول: لا ل "المونولوج"، رافضا الرخصة التي يمنحها له الشعر كتجربة ذاتية، ليقدم تجربة الشاعر الثوري، أو بتعبير أكثر دقة شاعر الثورة، وهي في صميمها تجربة ذاتية، لكنها مختلفة، عن الثورية الرومانسية.
5
شاعر الثورة يطرح ديالوجا، أي حوارا بين السجين ورفاقه وأصحابه وجماعته خارج السجن. ولنتأمل كلماته:
صوتي، نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح رغيف، رغيف
يشبع اللمَّه
الصوت هنا عند زين قصائده التي لا يملك سواها تواصلا مع الناس، لكنّ هذا الصوت النحيف سرعان ما يتحول إلى أرغفة خبز، في زحمة الناس، ولنا أن نتأمل "الرغيف" هنا بمعانيه الواسعة، وبما ينطوي عليه من دلالات غنية ومن قدرة على التأثير في الناس، ومن رغبة في أن يخدمهم، ويطعمهم.
إنه يرى القدرة الحقيقية على الفعل التي يملكها (صوته) عندما يصبح فرسا قادرا على أن يعدو، مالكا لقدرة الحركة والفعل..
القصيدة تتحول إلى رغيف، وفرس، وربما كان "الفرس" في الاستخدام الشعبي أكثر قربا من التعبير عن القوة والحيوية والعافية، من "الحصان".
لكننا لا ينبغي أن نبتعد كثيرا عن لغة الشاعر، وموقفه من "الجماعة"، إذ يرى دائما موقع قصيدته "داخل" الفعل الثوري، تعمل على إنضاج "الظرف" الثوري، وتنضج معه، أي أنه لا يرى قصيدته بعيدا عن الفعل والتفاعل، وبمنأى عن التأثير والتأثر. صوت الشاعر في هذه القصيدة يحرك جماعته، لكنه يتحرك بها، ويتحرك معها..
الثورة والثمرة
صوتي نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح رغيف، رغيف
يشبع اللمَّه
صوتي نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح فرس رهوان
لا يرى زين العابدين فؤاد الفرد إلا في إطار الجماعة، مهما كانت قيمة الفعل الفردي وأثره، ومهما كانت إمكاناته، إلا أنه في إطار الجماعة أكثر قدرة على الفعل والتأثير، فالصوت النحيف قادر على أن يستردّ عافيته وحيويته، ليصبح "فرسا رهوانا" في إطار المجموع، ومع الناس، لا بعيدا عنهم أو من دونهم.
هذه واحدة، والثانية أن الفعل الجماعي يعني هنا "الثورة" ولا شيء غيرها هو فعل منتج، ومثمر، وليس فعلا يدور في فراغ، وهو دائما فعل يصل إلى "نتيجة" تحقق للناس شيئا ملموسا على الأرض..
في "الجماعة" يكون للصوت/القصيدة قدرة على الفعل، والحركة، والتأثير، وفي "الزحمة" يجد الصوت نفسه، وتحقق القصيدة معناها، ومبررات وجودها، فهي فاعلة ومؤثرة في الجماعة، ومنتجة لها في آن، فيصبح الصوت النحيف رغيفا للجميع، يشبعهم، ويصبح الصوت/القصيدة فرسا يعدو للجماعة، ومن أجلها.
هل هناك علاقة بين الثورة والرغيف؟
إنه الرغيف محرك الثورة وسببها، وهو جوهرها ومضمونها، وهو غايتها وهدفها. من أجله تقوم الثورة، ومن أجله يضحي الثوار بأرواحهم، لا يثنيهم شيء عن تحقيقه، وصولا إليه: الرغيف. هو الثورة، وهو الثمرة.
6
في السجن، لا يرى الشاعر/السجين سوى شباك الزنزانة يتأمله، بينما هو يدرك أنه لا يربطه بعالمه الخارجي سوى هذا الشباك الصغير، وربما يتخيل لو يلتقي بناسه وأصدقائه وأحبابه، فأين "الجسر" الذي يربطه بهذا العالم؟ وكيف العبور؟ هنا لا يكون من ملجأ ولا وسيلة ولا أداة سوى "الصوت"، وما صوت الشاعر إلا "قصيدته".
وإذا كان الشاعر يقضي أيام وحدته في الزنزانة، "منفردا" في حبس انفرادي، أو مع غيره من السجناء لكنَّ السؤالَ الذي يلح عليه هو: كيف السبيل إلى "التواصل" مع عالمه الخارجي، ودنياه التي انتزعه منها الجلادون؟
يلقي سمعه إلى أصوات الشارع، وهو يعرف أن ميدان باب الخلق بزحامه وحيويته وعافية الخلق الذين يروحون فيه ويجيئون فلا يجد الوسيلة، سوى حبال صوتهم أو أصواتهم، ينتظر أن يمدوا إليه هذه الحبال، عبر شباك الزنزانة، لعلها تكون "الجسر" والمعبر الذي يدخله في بيوتهم التي يشعر فيها بالدفء.
في السجن، لا يشعر الإنسان سوى ببرودة الوحدة، وصقيع العزلة، لكن هذا الشاعر لا يشعر بهما، إذ لديه ما يدفئه من إحساس قوي ب "خارج" السجن.
حتى وهو في محبسه، لا يشعر سوى بأنه متواصل مع مجموعه، مدركا أن هذا المجموع ينتظره بقدر ما "ينتظرهم". هذا "الرد" أو هذه "الإجابة" لتحية الصباح التي يلقيها عليهم، هي الجسر الذي يعرف أنه وصله، وتلقاه، عبر جلبة الأصوات وزحامها وضوضاء ميدان باب الخلق، فيشعر بالإيناس والألفة والاطمئنان إلى أن السجن ليس إلا في النفس، أما نفسه فليست محبوسة، لأنها خارج السور بالفعل، متجاوزة أي قدرة للسلطان والسجان، وهو بالفعل لا يستطيع أن يمنع الشاعر السجين من محيطه الحي..
تزخر قصيدة "أغنية للصباح" بالصور، وقد أرى في الكثير من قصائد السجن لديه احتفاءً كبيرا ب "الصورة"، حيث يحشد الشاعر قدرته على "التشكيل"، فيقدم لنا العديد من المشاهد الغنية بالحركة، الثرية باللون، فكأننا نشاهد شريطا من الصوت والصورة زاخرا بحركة الحياة وإيقاعها.
7
يسعد صباحكم يا للي تستنوا الصباح مني..
ودائما، ينتظرونك، وينتظرون طيبتَكَ التي تغدق عليهم بخبز الحب، وعطائك سلالا محمّلة بفاكهة روحك الحلوة.. هي من أجمل قصائد الشاعر التي تكشف عن نبله في "وحدة" السجن، إذ لا تستطيع جدران السجن الباردة أن تهزمه، عندما يقاومها بالأصدقاء، ويغالبها إذ يستدعي أصحابه ويستحضر أرواحَهَم، فيجدهم حوله في السجن، أو لعله يجد أنفاسهم وأرواحهم تطعمه، وتقوي ظهره، فإذا بصوته النحيف يصبح رغيفا، لكنه وهو في السجن، لا ينسى همه، همه الأكبر وهمه الأول أن يطعمَ الناس، "لكنه في الزحمة يصبح رغيف، رغيف"... ما هذا الشاعر الذي لا ينسى الناس في عنفوان جدران السجن، وأمام غلظة السجان؟ إنه لا ينسى الفقير.. هذه قضية الشاعر الذي يؤمن بالاشتراكية، طريقا إلى بناء مجتمع يحقق "إنسانية" الإنسان، هذه "الأنسنة" التي تبحث عن ناسها يا زين في بيوت خضرا، وفي جناين بكره.. ودائما تظل قصيدتك "قناية"، وكلمتك "دراع وكباية" تتمد للعطشان.. وما للناس "العطاشى" في بلادنا سوى كلمة الصدق التي تدلهم على طريق الحرية والعدل، وتستنهض قواهم وعزائمهم، لكي يصنعوا فجرهم بأيديهم!
Comment *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.