سعر الذهب اليوم الجمعة في مصر ينخفض مع بداية التعاملات    لتضامنه مع طلاب محتجين.. إيقاف رئيس حرم جامعي بكاليفورنيا    موعد مباراة الأهلي والترجي في ذهاب نهائي أبطال أفريقيا 2024    بعد 3 أسابيع من إعلان استمراره.. برشلونة يرغب في إقالة تشافي    موعد مباراة الأهلي والزمالك في نهائي دوري اليد والقنوات الناقلة    العظمى بالقاهرة 35.. "الأرصاد": موجة حارة ورياح واضطراب الملاحة بهذه المناطق    بعد 12 يوما على غيابه عن المنزل.. العثور على جثة طفل داخل بالوعة صرف صحي بالإسكندرية    ضبط زجاجات مياه غازية ولحوم مذبوحة خارج السلخانة ببني سويف    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    لطيفة تحتفل بعيد ميلاد عادل إمام: "من أكتر الناس اللي وقفوا جمبي لما جيت مصر"    "زووم" برنامج للأنشطة الصيفية في متحف الطفل    دعاء يوم الجمعة المستجاب.. «اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها» ردده الآن    هل يمكن أن يؤدي الحسد إلى الوفاة؟.. الأزهر للفتوى يجيب    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    أسعار الحديد اليوم الجمعة 17-5-2024 في أسواق محافظة المنيا    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أستراليا تفرض عقوبات على كيانات مرتبطة بتزويد روسيا بأسلحة كورية شمالية    أين وصلت جلسات محكمة العدل الدولية للنظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟    السفير سعيد أبوعلى الأمين العام المساعد بجامعة الدول العربية ل«روزاليوسف»: تحركات عربية مكثفة لملاحقة المسئولين الإسرائيليين أمام «الجنائية الدولية»    أسعار السمك اليوم الجمعة 17-5-2024 في محافظة قنا    فرصة استثمارية واعدة    كريم الحسيني يقلد الزعيم عادل إمام احتفالا بعيد ميلاده (فيديو)    تركيا تجري محادثات مع بي.واي.دي وشيري لبناء مصنع للسيارات الكهربائية    موعد مباراة النصر والهلال والقنوات الناقلة في الدوري السعودي    «الأوقاف» تعلن افتتاح 12 مسجدا منها 7 إحلالا وتجديدا و5 صيانة وتطويرا    احذر.. قلق الامتحانات الشديد يؤدي إلى حالة نفسية تؤثر على التركيز والتحصيل    تقنية غريبة قد تساعدك على العيش للأبد..كيف نجح الصينيون في تجميد المخ؟    سيولة مرورية وسط كثافات محدودة بشوارع القاهرة والجيزة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 17 مايو 2024    فيرشينين: روسيا مستعدة لتوسيع مساعداتها الإنسانية لسكان غزة    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    النواب الأمريكي يقر مشروع قانون يجبر بايدن على إمداد إسرائيل بالأسلحة دون انقطاع    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    «رايحة فرح في نص الليل؟».. رد محامي سائق أوبر على واقعة فتاة التجمع    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    "كاميرا ترصد الجريمة".. تفاصيل تعدي شخص على آخرين بسلاح أبيض في الإسماعيلية    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحاس راضي يكتب : رغيف زين العابدين فؤاد .. قراءة في قصيدة "أغنية للصباح"
نشر في البديل يوم 23 - 08 - 2012


أغنية للصباح ..
شعر زين العابدين فؤاد
يسعد صباحكم
ياللي تستنوا الصباح مني
قاعد وباستنظر، حبال صوتكم
تدخلني في بيوتكم
تطعمني من قوتكم
ترجعني فوق مهره محنيه ، وبتغني
يسعد صباحكم،
ياللي تستنوا الصباح مني
صوتي، نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح رغيف، رغيف
يشبع اللمه
صوتي، نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح فرس رهوان
يصبح مرايه، مرايه
علي صدرها الألوان
ترسم بيوت، خضرا
ترسم غيطان بكره
تكتب لنا العنوان
تصبح قنايه، قنايه
تتمد، للعطشان،
بدراع، وكباية
نشرب سوا منها،
نطرح جناين
مداين
نتلم، ونغني
يسعد صباحكم
ياللي تستنوا، الصباح، مني
سجن الاستئناف\باب الخلق
يناير1972،
من ديوان الحلم في السجن
1
يمثل "الصَّباح" أو "الصُّبح" لحظة "شعرية" متميزة في قصائد زين العابدين فؤاد، وعالما خاصا قائما بذاته، وربما في الحياة اليومية للشاعر أيضا.
وقد نرى ذلك، ليس في هذه القصيدة التي بين أيدينا فحسب، بل نراه في الكثير من قصائده، إن لم يكن أكثرها، إذا وضعناها بعضها إلى جوار بعض حيث يمكن أن تتسعَ رؤية قارئه لعالمه ونصِّه الشعريين.
وقد احتفى زين العابدين فؤاد ب "الصُّبح" احتفاءً لا تخطئه ذائقة قارئه، يدلنا إلى ذلك فضلا عن وقوفه باستمرار أمام هذه اللحظة في الكثير من قصائده عناوين العديد من قصائده، فمن أغنية للشمس، وشمس الصبحية، إلى قهوة الصبحية، مرورا بأغنية للصباح، وغيرها من القصائد التي حملت عنوان الصباح ومترادفاته ومعانيه.
نحن أمام شاعر تحمل كلمة الصباح ومترادفاتها لديه العديد من المعاني، والرموز، والدلالات الاجتماعية والثقافية والزمنية، إضافة إلى الإحالات التي يحيلنا إليها الشاعر.
فالصباح أو الصُّبح يشكل لحظة "خاصة"، لها موسيقاها، وألوانها، ودفقتها الشعورية، ومضامينها الروحية والمادية أيضا، إذ يطرَبُ الشاعر في أكثر قصائده للصباح، ويبتهج له، ونكاد نراه ينتظره ويترقبه، يتأمله ويناجيه، بل يتعشقه ويتغزل فيه، أو في ما وراءه، في إعلاء صريح للكثير من المعاني التي يوحي بها "الصبح" أو يشير إليها، أو يكون مرادفا لها.
يفرح زين العابدين فؤاد بالصبح أو الصباح على نحو خاص، وهذا ما نستطيع أن نجده، ونتفهمه على نحو أوضح عندما نضع قصائده بعضها جوار بعض. وقد أستعير من أمين حداد "ده جنب ده، جنب ده، جنب ده"، أي عندما نضع قصيدة إلى جانب قصيدة، وبيتا في قصيدة إلى جوار بيت في قصيدة أخرى، عندئذ نستطيع أن نتأمل، ونكتشف، ونرى، وأن نفهم ببساطة وفي عمق ما يريد الشاعر أن يوصله إلينا من "رسائل".
من "يا شمس ياللي هالّة/يا حبنا الحلال" إلى "قهوة الصبحية"، مرورا ب "أغنية إلى عمال المحلة" التي كتبها في سجن طره، في مارس 1975:
تطلع جيوش الفقرا، مع شمس الصباح
ترفع رايتها كل يوم في مدينه
وفي آخر بيتين من القصيدة:
تطلع جيوش الفقرا، مع شمس الصباح
ترسم خريطة مصر
فالصباح أو الصبح، بما فيه من إحالات أو دلالات "تراثية" يعني لديه لحظة اندحار واستسلام جيوش الظلام أمام جيوش النور، ولحظة النهار عندما تنتصر على الليل، والعتمة عندما تتبدَّد أمام بقعة الضوء، ثم هو "الحقيقة" في أوضح تجلياتها وإشراقاتها، الصباح لديه هو "الحقيقة" الناصعة الواضحة المشرقة التي يتبناها الشاعر، ويرفعها راية، بل ويجسدها "كلمة/فعلا" في قصائده الثورية.
إنه الصًّبح لحظة النقاء والطهارة والبكارة والوضوح والانكشاف والتجلي، وهي لحظة الصدق التي يعيشها الشاعر مرادفا لكلمته الشعرية:
أكسر ضلعي
لو كلمة غش تبات جواه
فهل في لحظة انبلاج الصبح كذب، أو ضلالة، أو تدليس؟ وهل يكون النهار غَاشّاً وفيه النور الكاشف للأشياء؟!
2
إذا لم نقف عند معاني الكلمات ودلالاتها ورموزها، وتجاوزناها إلى الصور، فإننا نستطيع أن نرى "التشكيل" و"الإيقاع" في لحظة إشراقة الشمس، وتجليات ضوء النهار التي يتفاعل معها زين العابدين فؤاد، فيرى فيها أو يسمع!! تكوينات ضوئية، ويسمع فيها أو يرى!! موسيقى، وألوانا، وأصواتا، وإيماءات وإشارات ونداءات، كله في مزيج بين "الكوني" و"الإنساني"، و"تضفير" ما هو عام بالخاص، والموضوعي بالذاتي أو الشخصي، في رحلة بحث دائم للشاعر عن لحظة التنوير، أي لحظة الخروج أو النهوض "الجماعي" نحو الفعل الثوري (نتلم، ونغني).
نحن أمام قصيدة تبدأ سطورها وأبياتها، مع بداية يوم جديد، يدخل على الشاعر بشمس "جديدة"، ترسل خيطا من خيوط أشعتها إلى زنزانة السجن، فيوقظ الشاعر الذي يفتح عينيه على الشمس تحييه، عبر شباك زنزانته، فيرد تحية الصباح، لتكون أولَ ما يبدأ به نهاره الجديد:
يسعد صباحكم ياللي تستنوا الصباح مني..
إنهم "أصدقاؤه"، أول من يتذكر الشاعر مع خيط الشمس الذي تسلل إلى نافذة زنزانته، أو مع الضوء الذي تركه شعاع الشمس على النافذة المحرومة من شمس النهار!
3
"الصباح" وأغنياته تشكل منظومة متكاملة يردُّ بعضها على بعض، ويؤيد بعضها بعضا، معضّدا رؤية الشاعر. ولن نستطيع أن "نقرأ" القصيدة بعمق إذا نظرنا إلى قصيدة "أغنية للصباح" بمعزل عن الكثير من قصائده التي تفسر لنا موقف الشاعر الفكري والسياسي والفلسفي والإنساني والفني، و... الثوري.
إشراقة "الصبح" لدى الشاعر لحظة خاصة يعرف كيف يستقبلها كما يستقبل أصحابه وأصدقاءه.
هي لحظة التوحد والتواصل مع "الإنساني" و"الخاص" في حياة الشاعر ومواقفه، خصوصا عندما يكون في زنزانته، أي عندما يكون وحيدا، فإذا به يستدعي الأصدقاء والأصحاب، ليواجه بهم وحدة الزنزانة وبرودتها، ومعهم أصحابه يقهر لحظة السجن التي أراد سَجّانُه أن يزرعها داخله، فإذا به يقهر السجن والسجان، وهو لا يزال في محبسه، وفي سجنه الانفرادي!
"الصبح" لقاء بباقة الصحبة والأصدقاء، حيث يشعر معهم بإنسانيته، ويحسُّ في "اللمَّة" بتحققه "إنسانيا"، وفي الصباح التفاؤل بشيء "ما" يأتي بالتغير، أو للدقة التغيير، وبينهما فرق كبير، ثم الصباح لديه هو التفتح، وفيه ما هو أكثر وأهم: البشارة، والأمل، ودائما يرى فيه الجديد والسَّار.
جملة اعتراضية
لا أستطيع أن أنسى هنا إشراقات "الصباح"، عندما نقرأ قصيدته التي تبدأ ب "يا شمس يا للي هالّة، يا رزقنا الحلال".. وهي تنطوي على قدر كبير من الابتهاج والفرح بالشمس، والترحيب بها، فهي رمز الصباح ونوره، وفيها من التغني بفضائل الشمس وتجليات ثمارها في الحياة اليومية للناس، وكيف ينتظرها السجناء السياسيون بشوق.. هو كتبها في السجن أيضا، والشمس للسجين أي سجين تعني فرحة، فما بالنا بشاعر؟ ثم ما بالنا بزين العابدين فؤاد الذي تقول معه "يسعد صباحكم ياللي تستنوا الصباح مني"، فتستدعي بها إلى ذاكرتك كلَّ مفردات الصباح "القاهري" بأصواته وحركته، بضجيجه وزحامه، بصوره وطقوس شوارعه التي تمتلئ بشيوخ ورجال ونساء يسعون إلى أعمالهم، وأولاد وبنات يذهبون إلى مدارسهم، وفتيات وشباب يتجهون إلى جامعاتهم، وباعة ينادون على بضاعتهم، ومشاجرات ما تكاد تنشب حتى تفضَّها "حصل خير" و"ما محبّة إلا بعد عداوة".. والكل يملأ شوارع القاهرة بحيوية تتميز بها القاهرة عن غيرها من عواصم الدنيا، وعين الشاعر ترصد، وقلبه معلَّق بمدينته.
4
وراء الصورة، قد ترى وقد تحسُّ الصبح في لحظة طلوعه من وراء الأفق، وإذا ما تطلعت ببصرك وأطلقتَ لِعَينَيْ خيالِك أن ترى وتبصر، فإنك لا ريب تحس بالصبح يتنفس، بما لها من عمق روحي أو ديني، ودلالة "قرآنية"، وبما تنطوي عليه من دلالات وإيحاءات وإشارات ترتبط بعمق ثقافته الموسوعية التي وإن كانت مفتوحة على التراث العالمي، إلا أنها عميقة الارتباط ببيئتها وجذورها الضاربة في الوجدان والروح، وقد تشي بمسحة من الصوفية، وقد نرى لظهور الشمس أو الخروج إليها لحظة تشبه احتفاء الطفل بيوم العيد، بل بصباح يوم العيد..
لكنَّ زين العابدين فؤاد
قاعد وباستنظر ، حبال صوتكم
حبال صوتكم، أي مزاوجة في الحبال المفتولة من الخيط، وتلك الأحبال الصوتية، هو لا يأخذ من التسمية التشريحية سوى بعض حروفها، لكنه يقدم لنا معنى جديدا تماما ومبتكرا، بل وفريدا، هو في زنزانة تطل على ميدان باب الخلق، أحد ميادين قاهرة المعز، وهنا تستفز الصورة الشعرية في القارئ ذاكرته البصرية، وتستدعي لديه مشاهد الصباح القاهري، بكل مفرداته ومكوناته، الضوضاء وحركة الجموع.. إنه الشارع القاهري عندما يصحو من نومه، ينفض عنه تثاؤبه، وينهض ساعيا إلى الرزق الحلال!
"النون" وديالوج السجن!
ها نحن مرة أخرى أمام نون الجماعة.. وكما ذكرنا، في قراءة سابقة ل "قصايد مباشرة" التي قدمنا من خلالها "المفاتيح" الأساسية للدخول إلى عالمه الشعري، والملامح الرئيسية للغته الشعرية نجده لا يتحدث سوى بالنون، التي لا يخرج عنها الشاعر في قصائده إلا نادرا، وقليلا ما سوف نضبطه متلبسا بتقمص "الذات"، أو واقعا في لغة الأنا أو في مفرداتها، على الرغم من أن الشعر فن "ذاتي" أو هو "فردي"، وعلى الرغم من أن أكثر الشعراء ينغمسون في عشق ذواتهم، ويبررون لأنفسهم فعل "النارجسية"، كما يبررها لهم النقاد، إلا أن شاعرنا ينطلق من رؤية مغايرة، حيث لا يغفل عن إدراك قضيته الأساسية، التي يرى نفسه في "قلبها"، واحدا في الكل، وواحدا يجد الكل فيه..
وتأمل هذه القصيدة التي بين أيدينا: تكتب لنا العنوان/نشرب سوا منها/نطرح جناين/نتلم ونغني/
مفرداته في القصيدة تمثل إحياءً لروح "الجماعة" ولا وجود لضمير "المتكلم"، ربما إلا في حالة تواصله مع الجماعة، أو اتصاله بها وحواره معها.
هو في السجن، وحيد، لكنه لا يسمح لاثنين أن يستغرقاه، أولهما السجن، وثانيهما الذات، لكنه يتفوق عليهما ويغلبهما بحجر واحد يلقيه في دوامة "الوقت"، إنه "الديالوج" الذي يصنعه بين السجين وجماعته خارج السجن، ولو أقام "مونولوجا" في سجنه، حيث يقيم في زنزانة بمفرده، ما لامه أحد، بل وربما راح بعض النقاد يبحث عن تجربة السجن في شعره، بل ولربما كان يبحث عن مبررات لهذه "الذاتية" ويفلسفها، ويُعَدِّدُ تجلياتها في قصائده.. لكن زين العابدين فؤاد يقول: لا ل "المونولوج"، رافضا الرخصة التي يمنحها له الشعر كتجربة ذاتية، ليقدم تجربة الشاعر الثوري، أو بتعبير أكثر دقة شاعر الثورة، وهي في صميمها تجربة ذاتية، لكنها مختلفة، عن الثورية الرومانسية.
5
شاعر الثورة يطرح ديالوجا، أي حوارا بين السجين ورفاقه وأصحابه وجماعته خارج السجن. ولنتأمل كلماته:
صوتي، نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح رغيف، رغيف
يشبع اللمَّه
الصوت هنا عند زين قصائده التي لا يملك سواها تواصلا مع الناس، لكنّ هذا الصوت النحيف سرعان ما يتحول إلى أرغفة خبز، في زحمة الناس، ولنا أن نتأمل "الرغيف" هنا بمعانيه الواسعة، وبما ينطوي عليه من دلالات غنية ومن قدرة على التأثير في الناس، ومن رغبة في أن يخدمهم، ويطعمهم.
إنه يرى القدرة الحقيقية على الفعل التي يملكها (صوته) عندما يصبح فرسا قادرا على أن يعدو، مالكا لقدرة الحركة والفعل..
القصيدة تتحول إلى رغيف، وفرس، وربما كان "الفرس" في الاستخدام الشعبي أكثر قربا من التعبير عن القوة والحيوية والعافية، من "الحصان".
لكننا لا ينبغي أن نبتعد كثيرا عن لغة الشاعر، وموقفه من "الجماعة"، إذ يرى دائما موقع قصيدته "داخل" الفعل الثوري، تعمل على إنضاج "الظرف" الثوري، وتنضج معه، أي أنه لا يرى قصيدته بعيدا عن الفعل والتفاعل، وبمنأى عن التأثير والتأثر. صوت الشاعر في هذه القصيدة يحرك جماعته، لكنه يتحرك بها، ويتحرك معها..
الثورة والثمرة
صوتي نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح رغيف، رغيف
يشبع اللمَّه
صوتي نحيف، نحيف
لكنه في الزحمه
يصبح فرس رهوان
لا يرى زين العابدين فؤاد الفرد إلا في إطار الجماعة، مهما كانت قيمة الفعل الفردي وأثره، ومهما كانت إمكاناته، إلا أنه في إطار الجماعة أكثر قدرة على الفعل والتأثير، فالصوت النحيف قادر على أن يستردّ عافيته وحيويته، ليصبح "فرسا رهوانا" في إطار المجموع، ومع الناس، لا بعيدا عنهم أو من دونهم.
هذه واحدة، والثانية أن الفعل الجماعي يعني هنا "الثورة" ولا شيء غيرها هو فعل منتج، ومثمر، وليس فعلا يدور في فراغ، وهو دائما فعل يصل إلى "نتيجة" تحقق للناس شيئا ملموسا على الأرض..
في "الجماعة" يكون للصوت/القصيدة قدرة على الفعل، والحركة، والتأثير، وفي "الزحمة" يجد الصوت نفسه، وتحقق القصيدة معناها، ومبررات وجودها، فهي فاعلة ومؤثرة في الجماعة، ومنتجة لها في آن، فيصبح الصوت النحيف رغيفا للجميع، يشبعهم، ويصبح الصوت/القصيدة فرسا يعدو للجماعة، ومن أجلها.
هل هناك علاقة بين الثورة والرغيف؟
إنه الرغيف محرك الثورة وسببها، وهو جوهرها ومضمونها، وهو غايتها وهدفها. من أجله تقوم الثورة، ومن أجله يضحي الثوار بأرواحهم، لا يثنيهم شيء عن تحقيقه، وصولا إليه: الرغيف. هو الثورة، وهو الثمرة.
6
في السجن، لا يرى الشاعر/السجين سوى شباك الزنزانة يتأمله، بينما هو يدرك أنه لا يربطه بعالمه الخارجي سوى هذا الشباك الصغير، وربما يتخيل لو يلتقي بناسه وأصدقائه وأحبابه، فأين "الجسر" الذي يربطه بهذا العالم؟ وكيف العبور؟ هنا لا يكون من ملجأ ولا وسيلة ولا أداة سوى "الصوت"، وما صوت الشاعر إلا "قصيدته".
وإذا كان الشاعر يقضي أيام وحدته في الزنزانة، "منفردا" في حبس انفرادي، أو مع غيره من السجناء لكنَّ السؤالَ الذي يلح عليه هو: كيف السبيل إلى "التواصل" مع عالمه الخارجي، ودنياه التي انتزعه منها الجلادون؟
يلقي سمعه إلى أصوات الشارع، وهو يعرف أن ميدان باب الخلق بزحامه وحيويته وعافية الخلق الذين يروحون فيه ويجيئون فلا يجد الوسيلة، سوى حبال صوتهم أو أصواتهم، ينتظر أن يمدوا إليه هذه الحبال، عبر شباك الزنزانة، لعلها تكون "الجسر" والمعبر الذي يدخله في بيوتهم التي يشعر فيها بالدفء.
في السجن، لا يشعر الإنسان سوى ببرودة الوحدة، وصقيع العزلة، لكن هذا الشاعر لا يشعر بهما، إذ لديه ما يدفئه من إحساس قوي ب "خارج" السجن.
حتى وهو في محبسه، لا يشعر سوى بأنه متواصل مع مجموعه، مدركا أن هذا المجموع ينتظره بقدر ما "ينتظرهم". هذا "الرد" أو هذه "الإجابة" لتحية الصباح التي يلقيها عليهم، هي الجسر الذي يعرف أنه وصله، وتلقاه، عبر جلبة الأصوات وزحامها وضوضاء ميدان باب الخلق، فيشعر بالإيناس والألفة والاطمئنان إلى أن السجن ليس إلا في النفس، أما نفسه فليست محبوسة، لأنها خارج السور بالفعل، متجاوزة أي قدرة للسلطان والسجان، وهو بالفعل لا يستطيع أن يمنع الشاعر السجين من محيطه الحي..
تزخر قصيدة "أغنية للصباح" بالصور، وقد أرى في الكثير من قصائد السجن لديه احتفاءً كبيرا ب "الصورة"، حيث يحشد الشاعر قدرته على "التشكيل"، فيقدم لنا العديد من المشاهد الغنية بالحركة، الثرية باللون، فكأننا نشاهد شريطا من الصوت والصورة زاخرا بحركة الحياة وإيقاعها.
7
يسعد صباحكم يا للي تستنوا الصباح مني..
ودائما، ينتظرونك، وينتظرون طيبتَكَ التي تغدق عليهم بخبز الحب، وعطائك سلالا محمّلة بفاكهة روحك الحلوة.. هي من أجمل قصائد الشاعر التي تكشف عن نبله في "وحدة" السجن، إذ لا تستطيع جدران السجن الباردة أن تهزمه، عندما يقاومها بالأصدقاء، ويغالبها إذ يستدعي أصحابه ويستحضر أرواحَهَم، فيجدهم حوله في السجن، أو لعله يجد أنفاسهم وأرواحهم تطعمه، وتقوي ظهره، فإذا بصوته النحيف يصبح رغيفا، لكنه وهو في السجن، لا ينسى همه، همه الأكبر وهمه الأول أن يطعمَ الناس، "لكنه في الزحمة يصبح رغيف، رغيف"... ما هذا الشاعر الذي لا ينسى الناس في عنفوان جدران السجن، وأمام غلظة السجان؟ إنه لا ينسى الفقير.. هذه قضية الشاعر الذي يؤمن بالاشتراكية، طريقا إلى بناء مجتمع يحقق "إنسانية" الإنسان، هذه "الأنسنة" التي تبحث عن ناسها يا زين في بيوت خضرا، وفي جناين بكره.. ودائما تظل قصيدتك "قناية"، وكلمتك "دراع وكباية" تتمد للعطشان.. وما للناس "العطاشى" في بلادنا سوى كلمة الصدق التي تدلهم على طريق الحرية والعدل، وتستنهض قواهم وعزائمهم، لكي يصنعوا فجرهم بأيديهم!
Comment *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.