يظل الموت يراوغك طيلة حياتك كفتاة لعوب تعرف أنها ستقتنصك في النهاية، وفي لحظة يمر بجوارك حتى أن ذيل معطف يلطم وجهك، ثم يبتعد حتى تكاد تنساه.عندما دخلت الحجرة التي أرقدوه فيها وكشفت الغطاء عن وجهه الهادئ المطمئن، كان الموت جالسًا جواره يبكي، لأن هذا المحب العظيم للحياة استسلم تمامًا لسلطانه، بل إن الموت يكاد يجزم بأن من دبر وخطط للأمر كي يخرج بهذه السهولة واليسر هو ذلك الشخص الذي كنا نظنه أكبر محب للحياة، لكنه كان يدبر – في غفلة منا – لموته طيلة حياته.لقد اكتشفت وأنا أكشف عن وجهه أنه مرر خدعته العظيمة دون أن أشعر، كما كان يمرر حبه، وخوفه، ورغباته، وطموحه، وأحلامه، وصداقاته، وعداوته، ونزقه، وجنونه، وولعه، وشجاعته، ونكوصه، وإحساسه المرير بالوحدة ... كان يمرر ذلك دون أن نشعر، ووراء ذلك كان يُعد بأناة وهدوء لعبته الأخيرة، يعرف أنها ستؤلمنا؛ لكنه كرجل مسرح خبير كان يعرف معنى النهايات، لأنه بعد هذا الألم الذي ينتابنا ونحن نرى الستارة تُغلق في الوقت الذي لم نكن نتخيل أن هناك ستارة. كان يعرف أننا سنهدأ ونفكر لنكتشف مدى جمال اللعبة، وأنها هي هذه اللحظة وليست سواها التي كان ينبغي أن تُغلق فيها الستارة، ونعرف كم كان ذكيًا وشجاعًا ومسرحيًا موهوبًا وهو يختار هذه اللحظة، حتى أن الموت الجالس بجواره يبكي لم يتمالك نفسه، وأخذ يصفق بحرارة لهذا الرجل الشجاع الذي أحب الحياة، فعرف كيف يخرج منها سالمًا محمودًا. كنت أبكي وأنا أخرج من حجرته لأنني ظننت أنه كان سيعطيني وقتًا أطول كي أقف على مسرحه قبل أن يغلق الستارة، وقتًا أستطيع فيه أن أحكي له عن أشياء خبأتها عنه كي أحكيها في وقت لم يأتِ، أو أن أدعه يتكلم عن أشياء أعرف أنه لن يتكلم عنها أبدًا، فقط لأطيل عمر "العرض" الذي يعرف أنه لن يتحمل ثرثرات غبية من مؤلفي دراما احترفوا الملل مثلي، الآن وأنا أنظر إلى ستارة لن تُفتح أبدًا، أسمع صوته يقول لي .. أليست هذه النهاية المُثلى التي كنت تتمنى كتابتها ؟ .. لقد فعلتها قبلك .. هكذا الحياة التي لو أحببناه بصدق لعرفنا متى نغادرها .. يصفق الموت وهو يمر ورائي حاملا روحًا أحبت الحياة .. فعرفت كيف تغادرها. في وداع الصديق حمدي سالم Comment *