"فقد اطلعنا في الصحف المحلية على أخبار محزنة وإشاعات سيئة عن مسلمي بعض ولايات الأناضول من الممالك العثمانية، وهي أن بعضهم يعتدون على بعض المسيحيين فيقتلونهم بغيا وعدوانا، فكدنا لا نصدق.. لأن الإسلام يُنهي عن كل عدوان ويُحرم البغي وسفك الدماء والإضرار بالناس كافة المسلم والمسيحي واليهودي في ذلك سواء، والله ما داس أمرؤ حريمهم ووضع السيف فيهم وبغى عليهم إلا كان ناقضا لما أخذ الله على المسلمين من عهد وأوجب عليهم من أمر، فيا أيها المسلمون لا تجعلوا للعصبيات سلطانا عليكم، ولا للتشيع للعناصر سبيلا إلى نفوسكم فإن هذه حمية الجاهلية التي برّدَها الإسلام". هذا ما كتبه الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر الشريف تعليقا على المجازر التي ارتكبها أهل أضنة وقيليقية في الأناضول في حق الأرمن (مات وقتها منهم ما يقارب العشرين ألفا.. وبعض الروايات تتحدث عن إغراق بعضهم في البحر) وذلك عام 1909، والسبب أنه لما أعلن دستور الدولة التركية عام 1908 سرت الشائعات بأن الأرمن خصوصا والمسيحيين عموما هم فقط المستفيدون من الدستور، وأن غاية هؤلاء إلغاء الخلافة الإسلامية وإبطال العمل بالشريعة، فضلا عن الفتوى التي أعلنها مفتي أضنة والتي تقول إن الإسلام يبيح إراقة دماء المسيحيين وإعمال السيف فيهم دفاعا عن الدين وشريعة الله! خاض الأتراك لفترة طويلة معركة الدستور، فقد كانت الدولة العثمانلية، إحدى دول الخلافة الإسلامية في ذلك الزمن، قبلها تحكم كيفما يتفق مع رغبة الباب العالي، السلطان العثماني، أما القضاء فقد كان أيضا كيفما أتفق، ففي كل مدينة قاض شرعي، هو بالأساس رجل دين يوليه السلطان على القضاء فيحكم بما يرى في القضايا التي تعرض عليه، ليس لأحد سلطان على أحكامه، خصوصا وأنها تصدر ممهرة بخاتم الله، فالقاضي الشرعي يحكم بشرع الله، فمن يمكنه الاعتراض على شرع الله. والحقيقة أن مسألة توحيد القضاء وصياغة السلطة القضائية، إن كان لنا تسميتها بذلك، في نظام قانوني موحد، يتجنب هوى القاضي ويحترز لتضارب الأحكام وتعددها في الحالة الواحدة وفي القضية الواحدة، أقول إن مقترح تنظيم السلطة القضائية وتوحيد القضاء كان مقترح قديم طرحه أول ما طرحه ابن المقفع، المنسوبة إليه رواية كليلة ودمنة، لكن أحدا من السلاطين، ومن خلفاء المسلمين لم ترقه الفكرة، غالبا لأنهم كانوا سجناء العادة، وربما لأن فوضى القضاء تحمي هواهم وتجعلهم أكثر سيطرة على القضاء. المهم أنه ما أن انتبهت الخلافة الإسلامية العثمانية لفكرة الدستور التي هي أساس الدول الحديثة، وما أن شرعت في إقراره حتى تحرك سجناء العادة وحماة النقل وعبيد التقليد، تحركوا وقد صوّرت لهم عقولهم الجاهلية وقلوبهم المتحجرة أن الدستور إنما يتعارض مع الشريعة، وأنه لابد يقضي على الشريعة ويمزق أركانها، وفي القلب من تلك الحركة كانوا رجال الدين المتشددين الذين أباحوا دم الأرمن، بدعوى أن الدستور يساوي بينهم وبين المسلمين، خير أمة أخرجت إلى الناس. الفارق بين الدولة الحديثة والدولة التقليدية، أن الأخيرة تتأسس على القوة وعلى العصبيات، سواء العصبية القبائلية أو العشائرية، دولة الأمويين أبناء معاوية، ودولة العباسيين أبناء العباس، ودولة العثمانيين أبناء عثمان كمثال، أو العصبية الدينية، التي عليها تأسست معظم الممالك المسيحية في أوروبا والممالك الإسلامية في الشرق، أو تلك التي تتأسس على شرعية "الفتح" كالدولة الإسلامية في الأندلس كمثال. أما الدولة الحديثة فتلك التي تتأسس على شرعية حكم الشعب لنفسه، وبالتالي على أساس المواطنة، أو حسب الأدبيات السياسية العيش المشترك، فيتساوى المواطنون أمام الدولة وأمام القانون دون النظر لعقائدهم ولجنسهم وللونهم ولعصبيتهم. وبما أن المسلمين في الدولة المسماة على سبيل المجاز إسلامية، دولة الخلافة، كان لهم دائما وضعية متمايزة حتى وإن لم يكونوا أغلبية (مصر مثلا ظلت بعد الغزو العربي لقرون خمسة تقريبا أغلبية مسيحية وحكم عربي إسلامي) فقد شعروا أن الدستور سوف يحد من تمايزهم وسوف يلغي أية امتيازات حصلوا عليها بحكم العادة. وبسبب هذه المخاوف حدثت الفتنة التي أسقطت من الضحايا الأرمن ما يقارب العشرين ألفا (وبالمناسبة سقط حوالي ألفا مسلم). نعود إلى موقف الشيخ سليم البشري من تلك الفتنة، وهو من هو من مشايخ الأزهر الشريف، وهو من هو من رموز تلك المؤسسة الإسلامية العريقة. أول ما يلفت النظر فيما كتب هو عبارة "فكدنا لا نصدق" وهي تشي بأن مثل هذه الحوادث لم تكن من الأمور الشائعة على الأقل في مصر، فلا عرفت مصر مثل هذا النوع من العنف، ولا عرفت مثل هذه الحمية الجاهلية في الوحشية. الأمر الثاني أنه يذكر هؤلاء بأن الشريعة الإسلامية المسلم والمسيحي واليهودي لديها سواء، في حرمة الدم على الخصوص، ففي الإسلام الدم كله حرام، وليس أجمل من عبارة الرسول حين وقف لجنازة يهودي فلفت بعض الواقفين نظره لديانة المتوفي فقال ببساطة "أو ليست نفس؟". الأمر الثالث ما قاله البشري الكبير وهو "ما داس امرؤ حريمهم ووضع السيف فيهم وبغى عليهم إلا كان ناقضا لما أخذ الله على المسلمين من عهد" ففي ذلك تعظيم للفعل الذي إن فعله فاعل لم يقع في المحظور فحسب وإنما يكون ناقضا لعهده مع الله ويكون خارجا عن الملة إذن. الأمر الرابع هو قوله "لا تجعلوا للعصبيات سلطانا عليكم ولا للتشيع" وأيضا "هذه حمية الجاهلية التي برّدها الإسلام" فالحمية جاهلية حتى ولو كانت بدافع حماية الدين، والعصبية للدين وللأخوة في الدين جاهلية مهما خلصت لله. أما لماذا قال البشري الكبير ما قاله ففي ظني لأن تجربة الدستور كانت قد صارت مستقرة في مصر فقد كان دستور مصر الأول قبل هذه المجازر بربع قرن تقريبا (1882)، فقد كانت مصر منذ محمد علي على مشارف التحول لدولة مدنية حديثة، لهذا كان قرار محمد علي الأول من أجل هذا التحول هو الانسلاخ عن دولة الخلافة حتى لا تلحق مصر بها في متاحف التاريخ. سؤالنا هنا: ألم يكن موقف هؤلاء المتعصبين المتشنجين لحماية الشريعة موقفا "إسلاميا"؟ إذا كان ذلك صحيحا فهل كان موقف البشري موقفا غير إسلامي أم أنه كان موقفا "إسلاميا" أيضا؟ هل أننا هنا بإزاء إسلاميْن؟.. في ظني أنه كذلك.. فقد كان موقف المتشددين في الأناضول موقفا إسلاميا بدويا جاهليا، لرجال لم يعرفوا من الإسلام إلا الاسم ولم يُبرّد الإسلام حميتهم الجاهلية بعد، فيما كان موقف البشري موقف الإسلام الحضاري المدني، موقف من أدّبه الإسلام وهذبته المدنية. نحن بإزاء إسلامات لا إسلام واحد وحيد، فحتى في دولة الخلافة الرشيدة فإن الإسلام اتخذ طابع كل أقليم وصل إليه، حتى أن الحضارة الإسلامية لم تنشأ إلا في الأقاليم الحضارية الكبرى التي عرفت الحضارة قبل الإسلام بقرون عديدة، في فارس ومصر، وهذه حقيقة لا يمكن إلا لجاحد إنكارها. نحن بإزاء إسلامات، وما الحرب الباردة التي تبدو في الأفق اليوم بين المسلمين في مصر وبين المتشددين من رموز الإسلام السياسي إلا حرب بين إسلاميْن، إسلام الحضارة والمدنية التي هي أساس تاريخ مصر، وإسلام البداوة والكراهية والظلامية، ولدي قرينة على ذلك، قد تكون خارج السياق، ولكنها مفيدة خصوصا لهؤلاء الذين يعرفون أهمية الخطاب. قبل أيام مات عمر سليمان، أحد رموز النظام السابق، ونائب الرئيس المخلوع، وأحد صناع النظام الأمني، فما أن مات حتى سرت موجة من الشماتة والتشفي على صفحات الفيس بوك، فكتبت على صفحتي "إلا الشماتة في الموت.. تلك أخلاق البداوة ولا تليق بالمصريين" ففوجئت بأحد الأشخاص يكتب "الشيخ عبد الرحمن السديسي إمام الحرم النبوي قال: الفرح بموت الطغاة من سُنة السلف الصالح.. فقد سجد أئمة التابعين شكرا لما بلغهم موت الحجاج، كالحسن البصري" ففضلا عن أن إشكالية الأصولية المتشددة البدوية الجاهلية تظهر بوضوح هنا في خلطهم بين الدين والتاريخ، وتصورهم أن التاريخ دين والفقه شريعة والمواقف البشرية سُنة، (الحسن البصري وغيره من التابعين ليس منزها وموقفه من موت الحجاج موقف تلقائي لإنسان لا لنبي) فإن أخلاق البداوة والجاهلية تظهر هنا أيضا كأشد ما تكون، وهي الأخلاق التي جعلت أبو العباس (السفاح) يأمر بإخراج رفات كل الخلفاء الأمويين انتقاما منهم لاغتصابهم السلطة من بني العباس!!. هذه أخلاق رجل لم يبرّد الإسلام حميته الجاهلية ولم يأخذ من الإسلام غير الاسم. الإسلام كان ثورة حررت الإنسان من بداوته وجاهليته، لكنها أيضا ثورة لم تصل ببردها وسلامها لكل من حمل لواءها وتسمى باسمها، وهي ثورة هذّبت الرجال بمشقة كبيرة، لم يبلغ تهذيبها غير هؤلاء الذين دخل معنى "التسليم" قلوبهم فوقر في ضمائرهم. الرسول نفسه الذي قال "أدبني ربي" ما أن قُتل عمه حمزة حتى توعد قاتليه وأقسم أن يحصد أرواح سبعين من عشيرتهم، حتى نزلت الآية الكريمة {إِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِّلصابِرينَ}. لقد كانت الحمية التلقائية للرسول حمية رجل من بني وطنه، رجل {يَأْكُلُ الطَّعَامَ ويَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} حتى إذا ما نزلت الآية برّدت من حميته الجاهلية، فإن كان الأمر سهلا على نبي الأمة فإنه لم يكن سهلا على باقي الرجال الذين تقاتلوا بحمية جاهلية بعد ربع قرن فقط من وفاة الرسول فيما عُرف بالفتنة الكبرى، وهم من هم من صحبه وآل بيته. ثم حرب بين إسلاميْن الآن في مصر، إسلام المحبة وإسلام الكراهية، إسلام الحضارة وإسلام البداوة، إسلام الاستنارة وإسلام الظلامية، إسلام المجتمع وإسلام الدولة، فإلى أي إسلام تنتمون يا أولى الألباب؟! وأي إسلام تختارون؟ أفلا تعقلون؟! Comment *