مهما كنت مشغولا غير صاف البال، فإنك لابد ستضحك حين يضحك الناس حولك في مسرحية ساخرة تشاركهم مشاهدتها. سيبدأ ضحكك خافتا لا تشعر به ثم يمتد إلى أركانك البعيدة حتى تضحك ملء نفسك على مشهد قد لا يكون بارعا أو قد يمر دون مجرد ابتسامة لو شهدته وحدك من منتصفه. ومثل ذلك يحدث حين تكون وقورا محافظا وتشهد مجلس طرب ولهو، فسرعان من يخفت الوقار وتصبح شيئا من نسيج ما حولك. قس ذلك أو دلل عليه بالتشجيع في المباريات، أو في مسرح التراجيديا وعدوى الحزن التي سريعا ما تخيم على المكان. وحين يلف وجوهنا هواء الليل البارد بعد انتهاء العرض، ويغسل النهار التالي تلك الليلة، تكون نفوسنا التي كانت تضحك بكل ما فيها أو تصرخ مشجعة أو تبكي حزينة قد عادت إلى سطرها الأول وانتظمت سيرتها في قاعدتها التي كانت عليها. تكرار أمر واحد من هذه الأمور بانتظام، إما الضحك بالعدوى أو اللهو أو حتى البكاء والحزن، يرفع سطر نفوسنا الذي تقاس عليه الأحوال أو يخفضه، مرة فمرة بتأثير خفيف لا يدرك. حتى تكتشف ذات مرة أن قاعدتك الجديدة قد أصبحت في مكان من هذه الثلاثة السابقة. والمنادي للمشجعين في مباراة بالتزام الهدوء كالمنادي للسمك من الشاطئ “أن اخرج و لك الآمان”. لن يسمعه السمك ولو سمعه لما أعاره انتباها. لأنه بشهادة البحر الذي سمعه، أحمق لا يعي. الحاكم للسلوك العام فيما سبق لم يكن المعرفة ولا المحافظة ولا السلوك المنتظم، بل كانت العدوى الجمعية التي تنتشر، سريعا بين فئة أو تتباطأ قليلا مع فئة أخرى، لكنها تخضع في النهاية لها. ولعل ذلك هو ما تشرحه رؤية تأثير مجموعات الشراب. (Peer group effect ) .. والتي تبطل حجة الآباء القائلين دوما “أنا عارف أنا مربي ابني ازاي” أو على الأقل تضعفها وتجعلها غير كافية لضمان السلوك فيما بعد. الوعي الجمعي : يفرق “دور خايم” ( وهو عالم اجتماع فرنسي من أسرة يهودية ) بين التصورات الفردية لدى الأشخاص أو الجماعات الصغيرة، وبين التصورات الجمعية العامة والتي يكون تأثيرها لاشعوريا في سلوك الأفراد بعد ذلك. والتصور الجمعي كما يرى لا يكون مجرد المجموع الحسابي لهذه التصورات الفردية، بل يتعداها إلى المشترك الإنساني بين هذه الجرز الفردية، والتي تبدأ غالبا بالمشترك الغرائزي. لذا يكون العقل الجمعي دائما أدنى من الوعي الفردي، ويغيب عنه الذكاء والحكمة. وسنستخدم أيضا تقسيم خايم نفسه للتضامن المجتمعي حيث قسمه إلى تضامن آلي : Automated solidarity وتضامن عضوي : Automated solidarity . وسأقتبس هذا الجزء الذي يشرح الفرق بينهما محاولا إيجازه بما لا يطيل أو يشتت : التضامن الآلي: يستند الى عقائد ومشاعر منبثقة من ضمير جماعي صارم ونسق استاتيكي وحركة متشابهة كالأفلاك. آلية التضامن ميكانيكية وحركة الأجزاء آلية لا إرادية .. كحركة الإنسان البدائي داخل العشيرة في سلوكه الاجتماعي مع أعضاء القبيلة. إن ضميره الفردي يستند كلية إلى ما يفرضه ( الضمير الجمعي) من قواعد منظمة لسلوكه الاستاتيكي الثابت حيث تسلب خصائص الشخصية الفردية فتمتص إرادة الفرد وحريته ويسلك سلوكا آليا. لن يلبث أن ينقلب عليه حين يتعارض مع مصلحته بصورة كبيرة تضيق معها حياته، ويكون انقلابه أعمى غالبا. أما في التضامن العضوي: فنجد نسقا من الوظائف معقدا وقائما على مجموعة متداخلة من العلاقات المتشابكة التي تعتمد على بعضها البعض حيث يتيح للفرد حرية التعبير والمشاركة فيصبح أكثر قدرة ومبادرة ويمارس إمكانياته ويحقق ذاته ويعبر عن فرديته ويعمل وفق قدراته ويحتاج إلى جهود الآخرين. ينبغي أن أذكر الآن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف المجتمع المسلم: ( كالجسد الواحد ) في اختلاف هيئة أعضائه، ووظائفها فيه، وقيمتها بالنسبة لوظيفته في الحياة، والتي مهما صغرت أو ظننا أنها حقيرة، يتداعى لها بقية الجسد بالحمى والسهر حين تمرض أو تتعطل. ما سبق مقدمة لما أريد أن أتحدث فيه الآن، وهو ردود الفعل إثر ما يحدث من أزمات اجتماعية كبيرة، ومثالها الآن حادث تفجير كنيسة القديسين. وسأوجزه في نقاط قد تبدو غير مترابطة، لكنها في النهاية شيء واحد. أولا: الذين سارعوا بنفي الإسلام عن الجناة، وتبرئته منهم، يشبه إلى حد ما، ما يفعله التكفيريون حين ينفون الإسلام عن المجتمع كله أو فئة فيه. وما دمنا متفقين إلى أنه ليس من أحد له سلطة إسبال الدين أو نزعه عن شخص أو جماعة، فما معنى هذا الكلام. إلا أن يكون الصورة المقابلة لذات الفعل من جهة أخرى. وكلاهما تطرف. ليكن من فعل هذه الجريمة مسلمون، وهو وارد تماما، وكم في المسلمين من مجرمين. وما بعض الوعيد في القرآن إلا للمسلمين المفرطين في دينهم، فهما أو قولا أو سلوكا. ثانيا: برزت العاطفة كمحرك قوي خلال هذين اليومين، حتى في حملات التبرع بالدم، ولعل كثير من المتبرعين يمرون كل يوم على سيارات التبرع الواقفة في الجامعات، وينتهي يومهم الطويل بسبع قرب على الأكثر، دون أن يفكر أحد في أنها تقف له. وأنه ممن يلزمه المشاركة لها، لأنها ستنتهي لمريض أو مصاب. الدم واحد، سواء كان المحتاج مصابا في حادث سير أو حادث تفجير. وتصادم حافلتين يخلف قتلى ومصابين أكثر مما خلفه حادث القديسين. وحوادث التصادم تجري كل يوم بل كل ساعة. أليس في ذلك غرابة إذا. هل يلزمنا استثارة العاطفة دوما لجني ربح ما، ولو كان مشروعا. ألم تكن العاطفة ذاتها هي التي حركت شعبا كاملا بكل أدواته لتصنع غضبا عارما على شعب آخر ( ماثله في الغضب والعبث أيا كان البادئ ) من أجل مباراة كرة قدم. عاطفتنا أيها السادة ليست مقدسة، بل تثير الغضب كما يثير الحادث الغضب وربما أكثر. ثالثا: لو صح أن الجناة من هذا البلد، وهو ما لن يستغرب، فلا يلزمنا حينها التبرؤ منهم، فالذين نفينا عنهم إسلامهم سيظلون مسلمين والذين سننفي عنهم مصريتهم سيظلون مصريين .. دمهم لن يتغير حين ننفي عنهم هذه الصفة. ولو نفينا عن كل مجرم مصريته، لنفيناها عنا جميعا، فكلنا مجرمون وإن اختلفت درجة فعلنا وظهر أثره أو اختفى. إنه سيشبه قول نسوة المدينة حين بلغهم فعل امرأة العزيز “وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين” نسوة المدينة لم يكونوا إلا زوجات الوزراء، فهم أول من سيعرف، وهم المناسبون لأن تجمعهم امرأة العزيز في القصر، فلن تجمع نساء العوام بالطبع. يرى الدكتور يحيى أحمدي أن قولهم “إنا لنراها” هو نوع من تبرئة الذات قبل أن يكون وصفا لفعلها، وإلا لقالوا “إنها لفي ضلال مبين”. ودليله أن القرآن عبر عن عبارتهم فقال: “فلما سمعت بمكرهن” .. ولم يقل “سمعت بقولهن” .. فإلقاء التهمة ( من وجهة نظرنا المجردة) مكر، لا يمت للتوصيف الحقيقي للحدث، بل يهدف في الحقيقة لنفي حدث بعينه عن المتحدث. لأن موازين الحق لا تكون (ما نراه)، بل ما يقاس عليه من القانون الذي تعارف الناس عليه. إن لحظة واحدة من التفكير ستطلعك على أثرك الخفي في كل حادث كبير حولك، وسيكون التعليل الحاضر لنا جميعا: “وماذا نفعل، إننا مدفوعين بما حولنا” رابعا: الطفل الصغير الذي يبكي لأبيه لأن أخوه اعتدى عليه، يجد أن أباه يسأله: “وانت عملت له ايه علشان يضربك” أحيانا يكون المعتدي والمعتدى عليه مخطئان ... لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار” ... كلاهما يريد قتل صاحبه. وكلاهما ظالم، ولم يشفع للمقتول أن سبقه صاحبه فقتله. وحين يكون الأب قصير النظر أو عاطفي المزاج، فيعاقب المعتدي، أو يكون مفرطا في مسؤولياته ويعتبر أنه اعتداء لخطأ، فهو حقٌ رُدَّ لصاحبه، فيسكت. ينتهي الأمر إلى تفلت احترامه والركون إليه والثقة فيه .. ثم إلى دائرة الظلم العمياء. ختاما : كل ما سبق لا يخرج إلا عن محاولة للتفكير، في سياق أوسع. (مكمل لما يقال ) أحببت مشاركتكم فيه، لأن الفكرة تزن الفكرة، والعبارة تصقلها العبارة .. وأترك لكم إجابة السؤال: هل ما حدث يعبر عن تداعي الجسد بالحمى والسهر للمصاب، عن وعي به، وسلوك الطرق المناسبة التي تقطع طريقه. والجسد المريض لا يفقد وظائفه كلها حين يمرض منه جزء، أم هو تداعي الآلة الميتة التي انكسر فيها ترس فتوقفت وهي لا تعلم عن حالها أي شيء. أو هو لا هذا ولا ذلك .. دوران في الفراغ .. مواضيع ذات صلة 1. محمد عبد الرحمن : ومن الإرهاب ما نفع 2. محمد خالد : أيدي إسرائيلية تعبث بالمؤخرة 3. محمد طعيمة: يا أهل “شبرا مصر”.. يا وحدة 4. محمد رفعت: محاورات المصريين 5. محمد عبد الرحمن : الشعب المصري يهتف : شكراً عمرو خالد