عندما وقف الرئيس السادات مزهوا في افتتاح دورة مجلس الشعب عام1977، بعد مرور أحداث يناير بسلام رغم تقديم بعض التنازلات- بدا في حالة من النشوة؛ فأمطر الحضور بالجمل الرنانة والعبارات القوية.. لم يفاجأ الحاضرون وكان من بينهم السيد ياسر عرفات عندما قال السادات جملته الشهيرة " ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم". صفق الجميع بحرارة، فلقد كانت العبارة في سياق من المبالغات والتهويل غلفت كلمة الرجل منذ بدايتها.. لم يأخذ أحد تلك العبارة على محمل الجد.. كانت المبادئ التي توضح حقيقة الصراع العربي الصهيوني ما زالت راسخة؛ لذلك كانت صدمة الكثيرين مروعة عندما نقلت الشاشات في العشرين من نوفمبر من نفس العام خطاب السادات الذي ألقاه من داخل الكنيست الذي أعلن فيه أنه يستهدف السلام الشامل.. وأعقب مبادرته بدعوة رئيس وزراء العدو "بيجن" إلى مؤتمر قمة في مدينة الإسماعيلية.. ورغم كل هذا السخاء الحاتمي الذي أغدقه السادات على أصدقائه الصهاينة.. إلا أن حديث "بيجن" لم يخرج عن حق دويلته في الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها، وعما تعرض له الصهاينة من عدوان مستمر من جانب مصر. بينما كان السادات يندفع بكل ما أوتي من حماس في هذا الطريق الذي اختاره وفق مبررات بدت براقة للبعض.. كان الكيان الصهيوني يمارس أفعالا استفزازية موقنا أن الجانب المصري يتمتع برحابة صدر كافية.. لدرجة أنه بينما كان وزراء خارجية مصر والولايات المتحدة ودويلة الكيان مجتمعين في مدينة القدس الشريف؛ ظل الصهاينة مستمرين في بناء مستوطنات جديدة في سيناء، وكأنهم لا يأخذون ما يجري مأخذ الجد.. حتى كان تصريح "ديان" الذي أعلن فيه عن رغبته في فشل المبادرة التي ستفقد الكيان مقومات أمنه. ورغم كل ذلك استمرت المحادثات التي كان معظمها يجري خارج الأعراف الدبلوماسية.. حتى أن وزير الخارجية المصري محمد إبراهيم كامل قدم استقالته اعتراضا على الطريقة التي أدار بها السادات المفاوضات وقال تحديدا" إن كل ما قبل به السادات كان أبعد ما يكون عن السلام العادل" ثم وصف كامل العملية برمتها بأنها "مذبحة تنازلات".. كانت هذه الاستقالة هي الاستقالة الثالثة في الخارجية المصرية بعد استقالة السيد إسماعيل فهمي وزير الخارجية، والسيد محمود رياض وزير الدولة للشئون الخارجية اعتراضا على المبادرة. في الثالث عشر من مارس 1978، أرسل "بيجن" برقية عاجلة إلى الرئيس السادات جاء فيها " بدأت قواتنا عملية محدودة على الحدود اللبنانية لإزالة قواعد الإرهابيين في المنطقة ، وأرجو ألا تعطل هذه العملية المحدودة المحادثات بين بلدينا" تمخضت هذه العملية المحدودة عن قتل وتشريد قرابة ربع مليون نسمة.. لكنها لم تعكر صفو العلاقة الودية بين الرجلين. وفي السادس والعشرين من مارس 1979، وعقب انتهاء ما سُمِّي بمحادثات كامب ديفيد وقَّع الجانبان على المعاهدة التي تضمنت عدة محاور رئيسة هي: إنهاء حالة الحرب وإقامة علاقات ودية بين مصر والكيان الصهيوني، وانسحاب الصهاينة من سيناءالمحتلة عام 1967، كما تضمنت الاتفاقية ضمان عبور سفن العدو من قناة السويس واعتبار مضيق "تيران" وخليج العقبة ممرات مائية دولية.. أشارت الاتفاقية أيضا إلى ضرورة البدء في مفاوضات لإنشاء منطقة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة والتطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. يخلط كثيرون بين اتفاقيات كامب ديفيد والمعاهدة.. ويبدو أن ذلك يحدث عن جهل لأن اتفاقيتي كامب ديفيد قد جرتا في العام 1978، بينما كانت المعاهدة في مثل هذا اليوم من عام1979، وكانت الاتفاقية الأولى قد حملت عنوان "إطار السلام في الشرق الأوسط" بينما حملت الثانية عنوانا آخر هو "إطار الاتفاق لمعاهدة السلام بين البلدين". تصاعدت الاحتجاجات في الوطن العربي على انفراد مصر باتفاقية صلحٍ تعترف فيها بشرعية دولة قامت على أنقاض فلسطين.. وأدان مؤتمر القمة في بغداد الاتفاقية، وهدد بقطع العلاقات مع القاهرة، ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس. كما أكد قرار القمة العاشر في تونس قرار بغداد بمقاطعة مصر في شهر نوفمبر. ووصف السادات قرار قطع العلاقات مع مصر بأنه "كان تطاولا وقحا منهم- يقصد الدول العربية- فاندفعوا في موكب واحد". وأضاف أن "عشرات المليارات "نازله" علينا وبحمد الله من غير الأمة العربية.. مضت السنين العجاف، لأننا عرفنا طريق السلام. مضت كل المعاناة". لقد وعد الرئيس السادات الشعب المصري بأنهار اللبن والعسل التي سيغترفون منها بعد توقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني.. وها نحن نرى اليوم ثمار المعاهدة تتحقق في وضع اقتصادي هو الأخطر على مدى تاريخ مصر الطويل. كان الهدف هو إخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني وهي الركيزة الأساسية في قوة العرب، ليخلو الكيان الصهيوني بالدول العربية كل على حدا مع استمراره في شن الحرب على مصر بطرق أخرى طالت كل المجالات وفي القلب منها الزراعة المصرية التي تم تدميرها تحت مسمى تبادل الخبرات بين الجانبين.. وكان على رأس القائمة التي تطول زراعة القطن المصري التي صارت في ذمة التاريخ. لقد أتاحت تلك المعاهدة الفرصة للكيان الصهيوني لوضع خطط تخريبية تطال المنطقة بأسرها كما أكد ذلك ما اعتبره البعض استراتيجية للصهيونية العالمية في فترة ما بعد المعاهدة التي تضمنت العمل على تفتيت الوطن العربي على أسس دينية.. وعرقية.. ومذهبية باعتبار ذلك التفتيت هو الضمان الوحيد لأمن الكيان. لقد حققت المعاهدة للكيان الصهيوني كل ما كان يرجوه وأكثر فتوالت اعتداءاته على الدول العربية، وزاد في تنكيله بالشعب الفلسطيني.. واستمرت عملية تهويد القدس والمقدسات الإسلامية في جميع أرجاء فلسطين، ولم تجن مصر من هذه المعاهدة سوى الاكتواء بنار الإرهاب والعزلة عن محيطها العربي التي استمرت لعشر سنوات.. وما زالت تداعيات " كامب ديفيد" تتوالى في دمار شامل يمتد عبر دول عربية خرجت فعليا من أوسع أبواب التاريخ إلى غياهب النسيان.