تحل اليوم الذكرى التاسعة والتسعين لانطلاق شرارة ثورة 1919 بمحافظة المنيا بل والصعيد عامة، أو كما يُطلق عليها تاريخيًا ملحمة "الدم والعسل"، التي أصبحت عيدًا قوميًا لأبناء عروس الصعيد، حينما لعب ثوار مركز دير مواس أقصى جنوب المحافظة دورًا بطوليًا كبيرًا في مواجهة قوات الاحتلال الإنجليزي، وتصدوا لقطار قوات الاحتلال لرفع طلبات الشعب إليهم، وبعدما رفضوا الاستماع إليهم، نشبت اشتباكات عنيفة انتهت بمقتل جميع أفراد الجنود الإنجليز وسالت دمائهم على قضبان السكك الحديدية. ويُعد الشهيد الدكتور خليل أبو زيد علي، القائد الحقيقي لثورة 1919 بالمنيا، ورغم صغر سنه الذي لا يتعدى 28 عامًا، أول من التف حوله جموع الأهالي بدير مواس لدرجته العلمية الكبيرة وإجادته اللغة الإنجليزية وشخصيته الملتزمة والقيادية، إذ كان دارسًا في جامعة اكسفورد بلندن بكلية الزراعة، وظل هناك أكثر من 8 سنوات منذ 1910 حتى 1919 رغبة من والده العمدة "أبو زيد بك علي"، وبعد عودته، رأى أن الحرية في مصر عامة والصعيد خاصة مسروقة من جميع المواطنين، وكل الخيرات تذهب للمستعمر، فاهتم كثيرًا بالشؤون السياسية وأًصبح أحد تلاميذ الزعيم سعد زغلول، كبقية الأسرة التي كانت تؤيد حزب الوفد حينها، وظل هكذا حتى بدأت البلاد تستشيط غضبا، خاصة بعد نفي الزعيم سعد زغلول، فبدأ خليل بعقد العديد من الاجتماعات مع الأهالي داخل قصره الذي تربى فيه، ومازال موجودا حتى الآن ويوعيهم بالمطالبة بحقوقهم وأهمية التحرك لأخذها. إطلاق الثورة بدير مواس وكان خليل دائم الاجتماع بالمهتمين والسياسيين من أبناء بلدته في قصر والده العمدة، إذ مازال القصر شامخا حتى الآن، ودائم التوعية بالدور الوطني الذي يجب أن يلعبه الجميع في التصدي للعدوان وقوات الاحتلال، إلى أن جاء يوم 18 مارس عام 1919، وعلم بتحرك البلاد بالعديد من المظاهرات، فتوجه على رأس حشد كبير ضم 4 آلاف مواطن تقريبًا، إلى محطة قطارات دير مواس، وتفاوض مع مسؤول السكة الحديد حينها، وتمكن من السيطرة على ما يسمى ب"الأسطوانة"، التي بدونها يتوقف أي قطار ولا يستطيع المرور من المحطة؛ لإيقاف قطار الإنجليز القادم من الجنوب، ومتجها إلى القاهرة وبه عدد من الضباط الإنجليز ومفتش السجون "بوب"، وبالفعل نجح في توقيف القطار. مقتل جميع قوات الاحتلال عندما توقف قطار، بدأ خليل التحدث إلى الإنجليز، ونقل طلبات المواطنين إلى الضباط، ورفض تحرك القطار قبل استماعهم إلى مطالب الجمهور، الأمر الذي دفع أحد الضباط لإطلاق الرصاص في الهواء، ما أثار حفيظة أهالي دير مواس، فقفزوا على القطار ونشبت الاشتباكات التي انتهت بمقتل مفتش السجون الإنجليزية و7 جنود آخرين، بالإضافة إلى جندي آخر حاول الهرب من الثوار فقفز في عربة الفحم الخلفية للقطار ولقي حته متفحمًا، ومع هتافات المواطنين، أحسوا بتحقيقهم انتصارا عظيما، الأمر الذي دفع بعضهم إلى وضع جثمان مفتش السجون الإنجليزية "بوب" أعلى عربة خضروات تجر بالأيدي، وجابوا به شوارع المدينة هاتفين "الرتل من بوب بقرش بقرش". ملحمة "الدم والعسل" ويذكر المؤرخون وأحفاد عائلة أبو زيد أن سبب تسمية الملحمة ب"الدم والعسل"، أنه أثناء توقف القطار الذي يقل الجنود الإنجليز بمحطة دير مواس، وأثناء وقوع الاشتباكات، كان هناك تاجر يبيع العسل الأسود، وكان يجلس منتظرًا قدوم قطار البضائع، وبجواره 200 بلاص عسل لنقلها لإحدى المحافظات، وعند وقوع الاشتباكات، سال دماء الجنود الإنجليز واختلطت بالعسل الذي سُكب من بضاعة التاجر وامتلأت المحطة بالدماء والعسل، ما تسبب في إطلاق ذات الاسم على الملحمة فيما بعد. وعقب الأحداث بعشرة أيام تقريبًا، جاء أسطول كبير من الإنجليز إلى مدينة دير مواس واستقبلهم البطل خليل أبو زيد دون الإفصاح عن هويته؛ لأنه كان من ضمن المطلوبين لإلقاء القبض عليهم، وتحدث معهم وأقنعهم بأن وقت الظهيرة الذي جاءوا فيه لن يجدوا أحدًا في منازل المدينة لأن غالبيتهم من الفلاحين الذين يعملون في الأراضي الزراعية، كما عثر بحوزتهم على كشف بأسماء المطلوبين للضبط، وفوجئ أيضًا بأن اسمه في مقدمة المتهمين، فحفظ غالبية الأسماء، وعقب ذهاب القوات، أبلغ جميع المطلوبين ونجح في تهريبهم وتوجهوا إلى قرية تونة الجبل. إعدام قائد الثورة و35 من المناضلين في اليوم الثاني، جاءت القوات مرة أخرى لكنها اكتشفت حيلة خليل أبو زيد وتهريبه المطلوبين، فبدأت في ارتكاب أعمال عنف ضد بعض الأهالي والسيدات، ما جعله يسلم نفسه وجميع الثوار المطلوب ضبطهم والبالغ عددهم 91 تقريبًا، وتمت محاكمتهم عسكريا في مديرية أسيوط، إذ كان مركز دير مواس يتبعها إداريا آنذاك، وحكم على المقبوض عليهم بالإعدام شنقا، ما دفع والد خليل العمدة "أبو زيد بك علي" بالتوجه للقاهرة وطلب تخفيف الأحكام، وبالفعل نجح لكن في يوم عودته إلى مقر السجن، وجد أن الحكم نفذ على ابنه وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وأحد أبناء العائلة "عبد الرحمن حسن محمود"، و34 آخرين وتم تخفيف الأحكام لباقي المتهمين للسجن سنوات مختلفة، ولم يتم تسليم جثث الشهداء لذويهم، ولا أحد يعرف مكانها حتى اليوم.