شهد شهر مارس عام 1954، واحدة من أبرز أزمات مجلس قيادة ثورة يوليو، التي مازلنا نعيش تبعاتها حتى الآن، ونتج عنها تلاشي وعود الديمقراطية، وهيمنة السلطوية. تعود بوادر الأزمة لعام 1952، فعقب نجاح حركة الضباط الأحرار في عزل الملك فاروق، والسيطرة على مقاليد الحكم، لكن لم تطرح أفكار واضحة حول نظام الحكم الجديد، وظلت هناك رؤى ومواقف متباينة وخلافات حول طريقة إدارة الدولة ونظام الحكم. فرغم وجود دستور 1923 وبعض مظاهر الحياة الحزبية، التي يمكن البناء عليها، إلا أن إجراءات مجلس قيادة الثورة، تجاهلت الشرعية الدستورية، بدعوى فساد النظام السابق، وبدأت سلسلة من الإجراءات والقرارات لترسيخ شريعة وسلطة جديدة، تمنح الشعب بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مقابل التخلي عن الحقوق السياسية. تجاهل الشرعية الدستورية والمشاركة الشعبية، شارك فيها العديد من القوى والتيارات السياسية، التي رفضت الالتزام بالممارسة الديمقراطية، ودفعت في اتجاه الاستبداد السياسي، بعد رفضهم انعقاد البرلمان المنتخب، نتيجة خلافتهم مع حزب الوفد الحائز على الأغلبية البرلمانية في حينها، وفي الأشهر التالية ظهرت دعوات تطهير الأحزاب، ثم صدر قرار حلها ومصادرة أموالها، وإلغاء العمل بدستور عام 1923، لتتذوق كافة الأحزاب مرارة ما فعلوه مع حزب الوفد. خلال هذه الفترة أيضًا، روج مجموعة من الشخصيات القانونية الشهيرة لما يسمى الفقه الثورى والشرعية الثورية، وانعقدت الجمعية العمومية لقسم الرأى بمجلس الدولة وانتهت إلى إقرار قانونية عدم دعوة البرلمان المنتخب للانعقاد، وحق الحكومة فى إدارة البلاد دون برلمان لأى مدة ترتئيها. الانتقال للجمهورية مع بداية عام 1953، صدر مرسوم بتأليف لجنة من خمسين عضوا لوضع دستور جديد يتفق مع أهداف الثورة، وفى شهر يونيو تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وإعلان مرحلة انتقالية تمتد لثلاث سنوات، وخلال هذه الفترة تولى محمد نجيب رئاسة الجمهورية إلى جانب رئاسة الوزراء التي شغلها من 7 سبتمبر عام 1952، وتم تعيين زكريا محيي الدين كرئيس للمخابرات المدنية والعسكرية وعبد الحكيم عامر قائد للجيش، وتولى جمال عبد الناصر نائب رئيس للوزراء ووزير للداخلية. لكن مع مطلع عام 1954 تصاعدت الخلافات بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبالتحديد اللواء محمد نجيب، ومجموعة الضباط الشباب بقيادة جمال عبد الناصر، ونتيجة لهذه الخلافات، أُعلن في يوم 25 فبراير عن استقالة محمد نجيب من جميع مناصبه، وتعيين جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا لمجلس الوزراء. هذه القرارات سببت غضب ثورة سلاح الفرسان الداعم للرئيس محمد نجيب وإعلانهم رفضهم لتلك القرارات، بينما تحرك ضباط المدفعية ليحاصروا مقر سلاج الفرسان، ولإنهاء حالة الغضب والإحتقان، اضطر مجلس قيادة الثورة لإعادة محمد نجيب إلى موقعه، وإعلان قرارات 5 مارس 1954. وتضمنت القرارات الجديدة، خارطة طريق ديمقراطية، تتمثل في انتخاب جمعية تأسيسية تكون مهمتها مناقشة مشروع الدستور وإقراره، والقيام بمهمة البرلمان إلى حين انعقاد البرلمان الجديد، وفقا لأحكام الدستور، وإلغاء الرقابة على الصحف، وإلغاء الأحكام العرفية قبل انتخاب الجمعية التأسيسية. الثورة والديمقراطية لم تصمد القرارات سوى عشرين يوما، حدث خلالها خلافات عديدة داخل مجلس قيادة الثورة، فبينما دعم اللواء محمد نجيب ومعه خالد محي الدين هذه القرارات بوصفها تجمع بين الثورة والديمقراطية، طرح بقية أعضاء المجلس بقيادة جمال عبد الناصر تصور بديل يقضى بحل مجلس قيادة الثورة، وإعادة جميع الأحزاب القديمة، وتسليم السلطة للجمعية التأسيسية. المقترح البديل رغم ما يتضمنه في ظاهره من انحياز للديمقراطية، لكنه في جوهره " كان عملاً من أعمال الإثارة المبنية على التخلي فجأة عن السلطات والصلاحيات، ليجد الجميع أنفسهم على حافة الهاوية، وأمام اختيار شرير بين «الثورة» و«الديمقراطية»، وبين تسليم السلطة للعسكر بلا قيد ولا شرط، أو إنهاء الثورة، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبلها" هكذا يصف الكاتب والمؤرخ الراحل صلاح عيسى كيف تم إدارة الصراع حينها. ويضيف: "كان طبيعياً أن يثور الفلاحون والعمال الذين استفادوا من إنجازات الثورة ضدها، وأن تخرج مظاهراتهم تهتف: تسقط الديمقراطية يسقط المثقفون، لينتهى الأمر بتأجيل قرارات 5 و25 مارس 1954 إلى ما بعد مرحلة الانتقال، حيث لم تر النور منذ ذلك الحين". وسط هذه الأحداث لعبت جماعة الإخوان المسلمين، أدوار متابينة فبينما دعمت القرارات السلطوية في عامي 1952 و1953، وحاولت بسط نفوذها في ظل الفراغ السياسي الذي نتج عن حل الأحزاب، إلا أنها في عام 1954، وفي ظل الأزمات المتلاحقة، دفعت الجماعة ثمن باهظ لرهاناتها الخاسرة، بعد صدور قرار بحل الجماعة والقبض على أعضاءها.