للمنهج العرفاني الذوقي الذي يعتمد القلب والترقي الروحي كوسائل للمعرفة وجوده عند العديد من فلاسفة الإسلام الأوائل ويأتي على رأس هؤلاء الفارابي وابن سينا، غير أن التدقيق في منهج العرفان الذي يعتمد عليه هؤلاء الفلاسفة يكشف عن اختلاف بين بينه وبين نظيره الصوفي، أو بالأحرى يجعل من محاولاتهم مجرد وسائل مصطنعة لمشاركة المتصوفة في خصاصتهم وثمرة تجربتهم الروحية. فحين يحدثنا الفارابي عن كيفية الاعتماد على المنهج العرفاني في تحصيل المعرفة على نحو مختلف عن تلك التي يتم الاعتماد فيها على العقل أو الحواس يتعرض لبيان كيفية إطلاق القوة المتخيلة (وهي وسيلة مفترضة كبديل للعقل أو الحواس) كوسيلة لتحصيل المعرفة الإشراقية، وهي كما يقرر- قوة ثانوية بالنسبة للعقل، لا تدرك المعقولات المفارقة بذاتها وإنما تدركها بمحاكياتها من صور المحسوسات التي تحفظها لديها، أي أنها تتوقف عند حد معين في التعرف فلا تصل إلى ذوات المفارقات وعلى رأسها (الذات الإلهية) أو العلة الأولى بتعبير الفلاسفة، وإنما تدركها من خلال إدراك بعض التصورات العقلية الكامنة في العقل أو شبيهاتها المتمثلة في عالم الواقع. ويضطر الفارابي في تصويره لعملية انتقال المعارف من موطنها إلى الذات المتلقية إلى نظرية ملفقة يستفيد فيها إلى حد كبير بنظريات الفيض والعقول العشرة لأفلوطين، بالإضافة إلى أنه لم يستطيع الوصول إلى علاقة مباشرة بين الذات العارفة وموضوعها على نحو ما نجد لدى المتصوفة. وليس أدل على تهافت هذا التصور من محاولة تبريره تبريرا عقليا، فهو منشغل طيلة الوقت بمحاولة إقامة الدليل على إمكانية التحصل على معارف خاصة غير معتمدة في وسائلها ومنهجياتها على العقل والحواس، وهي أمور لم تكن تشغل للمتصوفة بال، فما يتحصل لهم هي ثمار تجاربهم، نور يقذف في القلب كثمرة للتجرد والتطهر من الأهواء والشهوات والأنفس، وهو لا يتوقف عند حدود للذات أو الصفات وإنما لكل على قدره، كما أنهم لا يكترثون لتصديق الآخرين لتجاربهم ولا لمحاولة إقامة الدليل العقلي على ما يدعونه، فهي مسألة ذاتية يشاركهم فهما من ذاق وجرب وعرف. أما الاتجاة الصوفي عند ابن سينا فيمكننا أن نلاحظه في الأنماط الثلاثة الأخيرة من كتابه "الإشارات والتنبيهات"، ويبدو أن هذا الكتاب جزء من الحكمة المشرقية التي أراد أن يقابل بها الفلسفة المشائية التي سبق أن قدمها للعامة في كتاب "الشفاء"، كذلك يمكن مطالعة هذه التجربة الذوقية عنده في رسالته عن "سلامان وإيسال" فالحقيقة وفقا للقصة هي الزهرة الجميلة التي شغفت سلامان وأنسته حب إيسال. ورغم أن ابن سينا المتهم الرئيسي في نظر الجابري –كما أسلفنا- في الإنحراف بمسار العقل الإسلامي من المنهج البياني البرهاني إلى المنهج البياني العرفاني، فإننا إذا نظرنا إلى أن التجربة الصوفية باعتبارها تجربة ذاتية في التطهير النفسي والترقي الأخلاقي، ينتج عنها في بعض مراحلها ألوانا من الكشف والمشاهدات تعذر علينا بأية حال من الأحوال أن ننسب ابن سينا إلى التصوف وهو نفسه ما ذهب إليه "شهاب الدين السهروردي" في رفضه أحاديث ابن سينا في العلوم الذوقية والعرفانية لأن سيرته الشخصية لم تكن تؤهله للحديث في المسائل الروحية. والحق أن تعرض كل من الفارابي وابن سينا للمعرفة الإشراقية يبدو نوعا من الترف العقلي، كأنما عز عليهما ألا يدليا بدلوهما في هذه المسائل الذوقية والمعارف الإشراقية التي لا تخلو من متعة إستشراف للغيب ومطالعة المفارق وإدراك الحقيقة الكلية؛ وإن لم يقم عليها ما يبررها تبريرا عقليا، او ربما رغبة منهما في إكمال أنساقهما الفلسفية، لذلك نجدهما يدرسان التصوف دراسة فنية، خاصة ابن سينا الذي تناول المعرفة الإشراقية والتصوف كأنه فصل من فصول الفلسفة التي يشرحها شرحا موضوعيا. يظل الحديث عن دور العقل العرفاني والمعرفة الغيبية في تغييب العقل المسلم وصرفه عن ضرورات الخلق والابتكار مستمرا من جيل إلى جيل، وقد لا يكون من المفيد للثقافة العربية محاولة تبني هذه الفكرة أو حتى دحضها، لأن هذا إنما سيصنع من وجهة نظرنا محاولة إيجاد مساحة من الجدال الفارغ المعنى. فالتيار الروحي أبدا لم يكن حكرا على المسلمين وحدهم على مدار التاريخ الإنساني، ولم يكن بالضرورة عائق في سبيل استكمال البنيان الحضاري، وحتى أكثر الحضارات مادية في واقعنا المعاصر وهي الحضارة الغربية الحديثة لا تخلو من تيار روحي، والثيوصوفية والروحية الحديثة اتجاهات فلسفية ومواقف عقلية متجذرة في العديد من شرائح المثقفين في المجتمع الغربي، بل يمثل اللجؤ إلى بعض التيارات الروحية في المشرق كالبوذية أو الزرداشتية أو حتى المسيحية حلا لتعويض الفقر الروحي لدى العديد من شرائح المجتمع الغربي الذي يشكو الإيغال في المادية.