مازال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يمارس هواية التلاعب في المواقف السياسية؛ فمن التمسك برحيل الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى أهمية عدم تجاهله في التوصل إلى حل للأزمة السورية، وإمكانية أن يبقى رئيسا مؤقتا، انتهاء بهجوم حاد بالأمس. وقال أردوغان من تونس أمس: "من المستحيل مواصلة مساعي السلام السورية في ظل وجوده، وإن أشركنا الأسد في العملية السياسية نكون قد ظلمنا الضحايا، وبالتالي لا يمكننا الاعتراف به كحاكم على سوريا"، وأضاف: "على الأسد الانسحاب من اللعبة في سوريا". تصريحات أردوغان المتناقضة لها سياقان؛ فمن الناحية الزمنية؛ تتقاطع مع مواقف روسية في الملف السوري لا ترضي غرور الزعيم العثماني، مع دخول الأكراد على خط التسوية؛ فروسيا الضامن الأكبر للتسوية السياسية في سوريا، بدأت لملمة مختلف أطراف الصراع عبر مؤتمر الحوار المزمع في سوتشي نهاية يناير المقبل، والموعد توافقت عليه الأطراف الضامنة لأستانا روسيا وإيران وتركيا، لكن ما لم يتم التوافق عليه، الحضور الكردي للمؤتمر السوري الجامع. وخرجت أخبار من موسكو تفيد بأن ممثلين لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي تتهمه تركيا بأنه وذراعه العسكرية (وحدات حماية الشعب الكردية)، امتداد لحزب العمال الكردستاني، لن يشاركوا في المؤتمر، لكن يبدو أن رياح سوتشي أتت بما لا تشتهيه سفن أردوغان، حيث أكد القائد العام لوحدات حماية الشعب الكردية، سيبان هيمو، أن روسيا وعدت بمشاركة عدد من الأكراد في مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده في سوتشي الشهر المقبل، وأضاف "روسيا ذكرت أنها تنظر للأكراد كمكون أساسي من الشعب السوري ولا ترى داعيا لوجود مشكلات مع المشاركة الكردية". ويبدو أن الوعد الروسي للأكراد بمشاركة 155 ممثلا منهم، أغضب أردوغان، وبطبيعة الحال لا يملك أوراق سياسية ثقيلة للضغط على روسيا، ويبدو أنه لم يجد أمامه غير تنفيس غضبه بالحديث عن الأسد الذي بات على مقربة من إجماع أوروبي بضرورة بقائه في الرئاسة السورية، الأمر الذي عكسته تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون الأخيرة، خاصة أن الرئيس السوري بات يستند إلى أرضيه صلبة حققتها انتصارات الجيش في الميدان، ودعم أطراف دولية كروسيا ومن خلفها الصين، بالإضافة للدعم الإيراني. قوة بشار الأسد ظهرت من خلال رد دمشق السريع على هجوم أردوغان، حيث قالت إنه يجدد سياسة التضليل أمام الرأي العام التركي، في محاولة لتبرأة نفسه من الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري. أنقرة المضطربة لا تنظر بعين الرضا إلى النفوذ الروسي المتزايد على البحر المتوسط من خلال قاعدتي طرطوس وحميميم، في الوقت الذي تتقلص أوراقها السياسية والعسكرية في سوريا، فبعيدًا عن الأكراد والهواجس التركية منهم، فإن موسكو بدأت العزف على وتر مدينة إدلب السورية، حيث قال وزير خارجية روسيا، سيرجي لافروف، إن المهمة الرئيسية في سوريا الآن "تدمير جبهة النصرة"، وتأتي بعد يوم من تصريح لوزير الدفاع سيرغي شويغو، قال فيه إن روسيا بدأت التأسيس لوجود عسكري دائم لها في قاعدتيها البحرية والجوية بسوريا. إعلان موسكو بدء الحرب على النصرة، يعني بالضرورة السير باتجاه إدلب، والمشكلة، أن أردوغان كان يسعى لتكريث إدلب كورقة رابحة في جعبة المفاوض التركي، فرغم أن تركيا صنفت جبهة النصرة تنظيما إرهابيا منتصف عام 2014، إلا أنه بقي حبرا على ورق، ولم تكن له أي تأثيرات على العلاقة بين الطرفين. ومن الواضح أن تركيا تسعى من خلال تعاملها المزدوج مع جبهة النصرة إلى ترويض الأخيرة، حيث أفاد معارضون سوريون، بأن الجيش التركي يوسع انتشاره في محافظة إدلب بشمال غرب سوريا بموجب اتفاق بين "هيئة تحرير الشام"، والتي تشكل "جبهة فتح الشام" عمودها الفقري وقوات تركية، بحيث تتسلم الأخيرة نقاطاً ل"هيئة تحرير الشام" قرب مدينة عفرين في ريف حلب، مع العلم إن أول قافلة عسكرية تابعة للجيش التركي دخلت مناطق تابعة لمدينة إدلب، كانت برفقة مسلحين من جبهة النصرة، في شهر أكتوبر الماضي. تحركات روسيا الأخيرة أزعجت الأتراك، وتحاول أنقرة الرد؛ حيث يرى متابعون أن الأخيرة أرسلت ثلاث رسائل إلى موسكو؛ أولها مقاطعة بعض فصائل المعارضة السورية التي تملك أنقرة وصاية عليها لسوتشي، والثانية في إسقاط طائرة لنظام الأسد أمس، بصاروخ لم يعرف مصدره حتى اللحظة، والثالثة انتقادها للأسد في الوقت الذي تقول فيه موسكو أن مؤتمر سوتشي لا مكان فيه للمعارضة المطالبة برحيل بشار الأسد. التركيز على السياق المكاني مهم أيضا، في تفسير تصريحات أردوغان العدائية ضد الأسد، فالأول، أطلق تصريحاته من تونس، ومن المعروف أن حركة النهضة التونسية ذات الميول الإخوانية تتبنى توجهات معادية للرئيس السوري، وأردوغان بوصفه زعيم الإخوان في المنطقة لا يمكن أن يُسمع الحزب التونسي إلا ما ترغب آذانهم سماعه. نقطة أخرى مهمة؛ فتصريحات أردوغان ضد الأسد تتزامن مع زيارة رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، إلى السعودية، وبالتالي يمكن أن تسهل مهمته في المملكة وتشكل أرضية مشتركة للحوار بين أنقرة والرياض، خاصة أنه لا توافقات تركية سعودية في الآونة الأخيرة، فالرياض ناقمة على أنقرة بعد اصطفافها مع قطر في الأزمة الخليجية، واصطفافها مع روسيا وإيران في الأزمة السورية.