أزمات عديدة يعاني منها كثير من المرضى النفسيين في مصر بسبب رجعية النظرة المجتمعية في كثير من الأحيان، ومن قبل بعض الفئات تجاه المرض النفسي، ما قد يجعل المريض يواجه رفضا مجتمعيا ونظرات استنكار، وربما إنكارا من بعض الأهالي، لدرجة أن العديد من نزلاء المستشفيات النفسية يمكثون بها لمدة تزيد على 20 عاما بسبب رفض الأهالي استلامهم. "البديل" اقترب من الملف لمعرفة معاناة المرضى "فاقدي الأهلية" حتى بعد شفائهم. فقد الأبناء والطلاق وفسخ الخطبة لم أتمكن من استرداد ابنتي التي فقدتها بسبب إصابتي بالاكتئاب قبل أن أنجبها بعدة أشهر.. هذه كانت مأساة "خ.غ" التي عانت صولات وجولات في محكمة الأسرة بعد أن قامت برفع قضية خلع على زوجها الذي يسيء معاملتها، مما دفعه إلى الانتقام منها بأسوأ الطرق وهي استغلال إصابتها بمرض الاكتئاب وعلاجها بإحدى المستشفيات النفسية، ونجح في ضم ابنته إلى حضانته رغم أن القانون يجعل حضانة الأطفال مع الأم في الأساس. كان مصابا بأحد أنواع اضطرابات الشخصية، وتأتيه أفكار تحمل شيئا من الضلالات، ولكنه نجح في الهيمنة عليها مع استمرار جلسات العلاج النفسي واتباع إرشادات الإخصائيين النفسيين، وحينما صارح خطيبته شكرته على صراحته، ثم فسخت الخطبة فجأة دون أي مقدمات، معللة ذلك بأنها لا تستطيع ربط حياتها بمجنون.. هكذا عانى أحد المرضى النفسيين، ورغم أنه تعافى وأصبح إنسانا طبيعيا فإنه قوبل برفض "مجتمعه" له. والدتها كانت مصابة بمرض الهوس الاكتئابي، فدفعت هي الثمن حين طلقها زوجها واتهمها بأنها مخادعة لأنها لم تخبره بالأمر في فترة الخطوبة.. هذه قصة "س.ن" التي قرر زوجها ودون أي مقدمات التخلي عنها بمجرد علمه أن والدتها مصابة بمرض الهوس الاكتئابي خشية منه أن تنجب زوجته ويحمل الطفل نفس المرض، ورغم تأكيد كثير من الأطباء أن الطفل لن يحمل المرض لأنه غير وراثي في العائلة فإنه لم يتفهم أي شيء وأنهى الزواج. دور إيواء لا تتوقف أزمات المرضى النفسيين على ذلك فقط، بل تصل إلى عدم اعتراف أهاليهم بهم بعد علاجهم بل ورفض استلامهم من المستشفيات النفسية أيضًا، مما جعل بعض المرضى يقيمون داخل المستشفيات لمدة 20 عاما وحتى الموت، نظرًا لاختفاء أهاليهم.. هذا ما أكده الدكتور عبد الرحمن حماد، رئيس وحدة الإدمان السابق بمستشفى العباسية، قائلًا: للأسف المستشفيات الحكومية للأمراض النفسية تحولت إلى دور إيواء، فهناك العديد من المرضى يحضرهم أهاليهم للعلاج ثم يتركونهم داخل المستشفيات دون السؤال عنهم، والعديد منهم لا يكونون بحاجة إلى المكوث بالمستشفى ويمكنهم تلقي العلاج من الخارج، ولكن الأهالي يتعاملون معهم كما لو كانوا يتخلصون منهم. وأوضح أن هذا السلوك، فضلا عن عد إنسانيته، فإنه يعني ضياع فرصة العلاج بالنسبة لمرضى آخرين خارج المستشفيات، نظرًا لانشغال الأسرة لمدة طويلة، ومن المفترض أن يخدم السرير الواحد أكثر من مريض، مشيرا إلى أن الألف سرير داخل المستشفى، على سبيل المثال، منها 300 سرير يشغلها مرضى لم يعودوا بحاجة للعلاج، ولكن القانون يمنع المستشفى من إخراجهم مع عدم وجود أماكن إقامة لهم، وهو ما يؤدي إلى ظهور قوائم الانتظار بالمستشفيات النفسية. ويرى طاهر عبد الله، أخصائي نفسي، أن المرض النفسي في مصر شيء مشين من وجهة نظر البعض، حتى إن كثيرا من الأهالي يتنكرون لذويهم من المرضى ويتركونهم بالمستشفيات دون السؤال عنهم، موضحا أن مئات المرضى النفسيين المتواجدين بالمستشفيات أصبحوا في غير حاجة للعلاج لكنهم لا يعلمون إلى أين يذهبون بعد خروجهم من المستشفيات. وأضاف عبد الله، أن أشخاصا كثيرين يترددون على المستشفيات النفسية للاستفسار عن طبيعة المرض وهل هو وراثي أم غير وراثي، في محاولة منهم للوصول إلى أي معلومة، كونهم مقبلين على الزواج من أحد أبناء أو أقارب أحد المرضى، مطالبا الإعلام بضرورة التفاعل مع هذا الملف وتوضيح حقيقة وأنواع المرض النفسي. أطباء وليس دجالين تغير في الصوت، النطق بهلاوس غير مفهومة، تشنجات.. أعراض قد تظهر على المريض النفسي نتيجة لمعاناته من مرض معين، ولكن أهل المريض سرعان ما يقومون بتشخيص الحالة بأنها مس شيطاني أو وجود جن بجسد المريض ومنها يبدأون رحلة البحث عن معالج بالقرآن أو التوجه لأحد الكنائس أو طرق أي باب للعلاج ماعدا باب الطب النفسي، لاقتناعهم التام بأن كلمة طب نفسي في مصر وصمة عار على جبين المريض، هكذا يكون حال العديد من المرضى النفسيين الذين يسهل وقوعهم فريسة للنصب والدجل. هذا ما يؤكده الإخصائي النفسي مراد عبد الدايم، الذي يقول إن هناك العديد من الأمراض النفسية تؤدي إلى تغير الصوت، والتشنجات، ووجود "ريالة" حول الفم، إلى جانب سير المريض بطريقة غريبة، كما أن عددا كبيرا من المرضى النفسيين يتحدثون إلى أنفسهم بل ويقومون بسب "اللاشيء" أو سب أنفسهم، وهو ما يجعل أهالي المرضى يعتقدوا أنهم مصابون بمس شيطاني ويبدأون في رحلات العلاج عن طريق الشعوذة. وأضاف عبد الدايم، أن عددا كبيرا من المرضى يتعرضون لأسوأ أنواع التعذيب من قبل المعالجين بالدجل في اعتقاد منهم أن الجن يعاند المعالج، ومن ثم يبدأون في ضرب المريض حتى يخرجوا الجن إلى أن يلقى المريض حتفه، موضحًا أن حالات مرضية كثيرة لقيت حتفها بسبب سوء تقدير المرض النفسي وعدم الذهاب للأطباء المختصين والاكتفاء بالعلاج عن طريق السحر والشعوذة. المتعافي يعمل ويتزوج أكد مدير مستشفى العباسية للأمراض النفسية الأسبق الدكتور رضا الغمراوي، أن المرض النفسي مثل أي مرض عضوي يمكن الهيمنة عليه إذا تم التعامل مع المريض بطريقة سليمة وتم اكتشاف المرض في أسرع وقت. وأضاف ل"البديل" أن أي مرض نفسي قابل للعلاج والتحجيم، وهناك العديد من المرضى نجحوا في العلاج وأصبحوا أعضاء فعالين في المجتمع، موضحا إمكانية حياة المريض النفسي بشكل طبيعي إذا تم الهيمنة على المرض، وقال: المريض النفسي يمكن أن يعمل ويتزوج وينجب أيضًا ويعيش كأي إنسان آخر، متسائلًا: من منا خالٍ من الأمراض النفسية؟ جميعنا نعاني ولكن بنسب متفاوتة، وأكد على ضرورة تفهم الأهالي لطبيعة الأمراض النفسية وأن المريض يجب أن يلقى الدعم المجتمعي والعائلي، وأن يعيش في بيئة سليمة حتى يتماثل للشفاء.