من الصعب إن لم يكن من المستحيل، فهم الأسباب والدوافع السياسية وراء قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو تحديد المصالح التى تعود على بلاده من ورائه، فالقرار الذى يصطدم مع الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة، يواجه حملات استنكار فى كل دول العالم حتى من حلفاء أمريكا الأوروبيين، كما أنه يضع أكبر العراقيل أمام مفاوضات السلام فى الشرق الأوسط، ويسىء لأصدقاء واشنطن فى المنطقة ويضع حكامها فى حرج بالغ أمام شعوبهم، كما يهدد مصداقية الولاياتالمتحدة فى كل دول العالم الإسلامي، بالإضافة لكل ذلك فهو يوفر كل أسباب العنف لدى المتطرفين للقيام بأعمال إرهابية ضد المصالح الأمريكية نفسها. لن يمكن فهم أسباب قرار ترامب إلا من خلال أفكاره الدينية المتطرفة، فالرجل يعتقد جازما بأن "تهويد" القدس يحقق نبؤات الكتاب المقدس، و يؤمن باعتباره بروتستانتيا مخلصا بأن عليه الالتزام بأفكار ومبادىء الصهيونية المسيحية التى تعود جذورها الأولية إلى العصور الوسطى فى أوروبا، والتى تطورت فى بريطانيا إلى الربط بين المجىء الثانى للمسيح وإقامة دولة لليهود فى فلسطين، وهى الأفكار التى انتشرت بين فصائل بروتستانتية عديدة فى أمريكا عقب قيام إسرائيل عام 1948، وانتشرت أكثر بعد نكسة يونيو 1967، للدرجة التى تبناها 3 رؤساء أمريكيين بصراحة تامة وهم ريجان وبوش الأب والابن، إلى أن جاء ترامب ليصبح رابعهم والذى اتخذ قراره بتهويد القدس رغم خشية سابقيه من اتخاذه! "الصهيونية المسيحية" هى كلمة السر وراء قرار ترامب، وهى التى كانت وراء تصريحاته العدائية تجاه المسلمين خلال حملته الانتخابية، وهى أيضا التى تستند إلى ما يشبه الخرافات والأساطير، منها محاولة الربط بين تأسيس الولاياتالمتحدة وتأسيس إسرائيل، فكلاهما كانا يواجهان اضطهادا دينيا ويريدان ممارسة شعائرهما الدينية بحرية، كما يواجهان أيضا أعداءً همجيين وهما الهنود الحمر والفلسطينيين، وأن إرادة الله مكنتهما من تحقيق أهدافهما. المؤمنون بالصهيونية المسيحية فى أمريكا يرون أيضا أن من واجب أمريكا مساعدة الله فى دعم اليهود حتى يعجلوا بعودة المسيح ليقيم ملكه على الأرض، عقب حروب عظمى يطلقون عليها اسم "هرمجدون" وهى منطقة فى سوريا، سيفنى فيها ثلثى الشعب اليهودي، ليبقى الثلث الآخر حيث يؤمن بالمسيح ويكفرون عن ذنبهم بصلبه من قبل ويعترفون به، ثم يسود السلام والسعادة لمدة ألف عام على الأرض، ويبدأ بعدها ملكوت السماء. هذه الأفكار الأسطورية التى تخلط الدين بالسياسة والتى لا تتفق معها الكثير من الكنائس البروتستانتية، هى التى تحرك خطوات ترامب فى الشرق الأوسط، والتى يحاول من خلالها الزعم بأنه يلعب دور الوسيط النزيه لتحقيق السلام العادل والشامل بين العرب وإسرائيل، رغم أن أفكار الرجل الدينية بحروبها الكونية المدمرة تنزع عنه أى مصداقية للعب دور ما فى تحقيق السلام بالمنطقة، كما تثير الشبهات حول كلامه عن "صفقة القرن" التى يتبناها بعض الحكام العرب، فى نفس الوقت الذى يدعم فيه ترامب المتطرف دينيا حجج ومواقف التيارات المتطرفة فى المنطقة باعتباره لا يشن فقط حربا شعواء على المسلمين وعلى حقوقهم التاريخية فى القدس، ولكنه فى الأساس يؤمن بضرورة شن الحرب عليهم حتى يفنوا تماما أو يؤمنوا بالمسيح بالشكل الذى يؤمن به هو، ولا حل ثالث أمامهم! اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل لا ينبغى أن يمر مرور الكرام على الحكام العرب، فهذا الاعتراف ليس سوى خطوة على طريق طويل يستهدف بناء إسرائيل العظمى التى تهيمن على المنطقة وتدير شئونها طبقا لمصالحها، ومع ذلك فلم نسمع من حاكم عربى واحد حتى الآن تصريحا يدين فيه ترامب، أو يهدد بقطع العلاقات مع أمريكا او إسرائيل، أو يلمح إلى إمكانية فض التحالفات مع واشنطن وبناء تحالفات جديدة مع الصين أو روسيا أو تركيا أوإيران ،بديلا للعلاقات الاستراتيجية مع أمريكا وإسرائيل التى أضاعت قطعة قطعة كل الحقوق العربية على مدار العقود الماضية، وبالتحديد عندما أعلن السادات عقب حرب اكتوبر أن 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، والتى أصبحت فعليا فى يد إسرائيل مع رؤساء مثل دونالد ترامب! محمد عصمت