حالة من الغموض تغلف الوضع السياسي في زيمبابوي، بعد تحرك عسكري باتجاه رأس السلطة التنفيذية في البلاد، وتنبع حالة الغموض هذه من خلال تباين التصريحات بين بيان قيادة الجيش الزيمباوي وتصريحات رئيس البلاد «روبرت موجابي»، حيث أكد الجيش استيلاءه على السلطة؛ لاستهداف ما وصفهم بمجرمين محاطين بالرئيس، لكن بيان الجيش المتلفز أكد أيضًا أن الرئيس وأسرته بخير، وأفاد شهود عيان أن جنودًا في مركبات مصفحة أغلقوا الشوارع المؤدية إلى المؤسسات الحكومية الأساسية والبرلمان والمحاكم وسط العاصمة هراري، حيث منعوا التجمهر في الشوارع الرئيسة، كما سيطرت وحدات من الجيش على مبنى التليفزيون الحكومي، وأعلنوا من خلاله خططًا للقبض على المقربين من الرئيس الزيمبابوي. من جهة أخرى تواردت الأنباء القادمة من العاصمة هراري عن اعتقال الجيش ل«موجابي»، فيما كال الحزب الوطني الإفريقي الذي يتزعمه «موجابي» الاتهامات للجيش بالخيانة، بالتزامن مع حملة اعتقالات طالت وزير المالية وأحد أهم أعضاء الحزب الحاكم الذي تتزعمه جريس زوجة «موجابي». ودعّم تصريحات حزب «موجابي» باعتقال رئيس البلاد تصريحات لرئيس جنوب إفريقيا «جاكوب زوما»، قال فيها إن رئيس زيمبابوي أخبره في اتصال هاتفي أنه قيد الإقامة الجبرية، الأمر الذي دفع «زوما» إلى إيفاد مبعوث إلى زيمبابوي؛ لتشكيل صورة أكثر واضحًا لما يجري هناك. وبين تباين التصريحات والمواقف يرى مراقبون أن الأمر ليس هينًا، فأن تصحو عاصمة زيمبابوي «هراري» على هدير دبابات زاحفة إلى القصر الرئاسي، يوم الثلاثاء الماضي، يعني أحد احتمالين: إما خطوة تصحيحية للرئيس الأبدي، وإما انقلاب. ويبدو أن الجيش الزيمبابوي مزج بين الاحتمالين، فمعالم الانقلاب واضحة، كما أنها انتهت بإعلان الجيش بطريقة «ملطّفة» انتهاء عهد الرئيس «روبرت موجابي»، بعد 37 عامًا من الحكم، والحركة التصحيحية أتت من الجيش وليس من الرئيس المخلوع، فالمدة الطويلة التي قضاها «موجابي»، صاحب ال 93 سنة، في الحكم كأطول رئيس إفريقي تقلُّدًا للسلطة، لم تكن الدافع الوحيد على ما يبدو لهذه الخطوة الانقلابية، حيث يأتي تحرك الجيش في ذروة صراع قوي داخل أروقة حزب «زانو- الجبهة الوطنية الحاكم»، فقد أثارت إقالة «موجابي» لنائبه «إيمرسون منانغاغوا»، وكان الأوفر حظًّا لخلافة «موجابي»، حفيظة قائد الجيش، الذي حذر قبل 24 ساعة الرئيس «موجابي»، من تحرك عسكري إذا لم تتوقف حملات التطهير داخل الحزب. واتهم حزب «زانو- بي إف» الحاكم الثلاثاء قائد الجيش الجنرال «كونستانتينو شيونغا» بالخيانة، بعد أن انتقد «موجابي» لإقالته نائب الرئيس «منانغاغوا» البالغ 75 عامًا. وتتيح إزاحة «موجابي» ل«منانغاغوا» الطريق أمام زوجة الرئيس «غريس موجابي» (52 عامًا) لتكون الرئيسة المقبلة للبلاد، وهو ما يعارضه بشدة ضباط كبار في الجيش، خاصة أن كثيرًا من الشبهات تدور حول زوجة «موجابي» فيما يتعلق بالسلطة والفساد وقضايا أخرى، حيث سبق لها أن ردّدت أمام أنصاره مرارًا «عليكم انتخاب موجابي، حتى بعد وفاته»، تأكيدًا على دورٍ ما لها في «هراري»، كما تورطت «غريس» في سلسلة من الفضائح المالية، ولم تنجُ من صحف الفضائح، التي اتهمتها ب«خيانة الرئيس موجابي مرارًا»، بل إن أحد عشاقها لقي حتفه في ظروف غامضة. المواقف الدولية جاءت أكثر غموضًا من الأحداث الحاصلة في زيمبابوي، فالولايات المتحدة أعلنت أنها لا تنحاز لأي طرف في السياسة الداخلية في زيمبابوي، لكننا كمبدأ عام لا نوافق على تدخل العسكر في الحياة السياسية، وجاءت التصريحات الأمريكية داعمة لموقف المعارضة الزيمبابوية فيما يخص الشق المتعلق بتدخل الجيش بالسلطة، حيث دعا حزب المعارضة الرئيسي في زيمبابوي «إم دي سي» إلى حماية الحكم المدني. وعبر الاتحاد الأوروبي عن قلقه إزاء تطورات الأحداث في زيمبابوي، وقالت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية «كاثرين راي»: «ندعو كل الأطراف المعنية للانتقال من المواجهة للحوار؛ بهدف التوصل لحل سلمي للأزمة»، وشدد وزير الخارجية البريطاني «بوريس جونسون» على ضرورة عدم اللجوء إلى العنف في الأزمة الدائرة في زيمبابوي، فيما دعت فرنسا كافة الأطراف بزيمبابوي إلى حل الأزمة القائمة بطريقة سلمية وفي إطار الدستور. الموقف الصيني وضع العديد من علامات الاستفهام، فوفقًا لمحللين فإن تحرّك الجيش الزيمبابوي لم يكن معزولاً عن غطاء دولي، صيني خاصةً، فالصين الشريك الأول تصديرًا إلى زيمبابوي، والشريك الثاني استيرادًا منها، لم تكن غائبة عن السمع، وقائد الجيش الزيمبابوي زارها يوم الجمعة الماضي، والتقى وزير الدفاع «تشانغ وانكان» في بكين، وبحثا معًا كيفية تطوير العلاقات بين البلدين، وعلى الرغم من نفي الخارجية الصينية علمها ب«الانقلاب»، إلا أن المتحدث باسم الخارجية، «جينغ شوانغ»، ذكر أن «الرحلة كانت مقررة سلفًا»، رافضًا الإجابة عن أسئلة أخرى حول الوضع المستجدّ في هراري. ويعتبر «موجابي»، الذي يصفه الغرب بالطاغية، سببًا في تدمير واحدة من الدول الإفريقية الواعدة؛ بسبب استعداده للجوء إلى العنف من أجل الاحتفاظ بالسلطة. وفي ظل الغموض يفترض بعض المراقبين أن علاقة «موجابي» بالجيش ستجعل القائمين على الانقلاب يفعلون ما بوسعهم لطمأنة الأجنحة الرئيسية في الحكم والتعاون معها؛ وذلك لعدم تكرار التجارب الانقلابية الفاشلة في القارة. ويقول «ديريك ماتيسزاك»، المحلل في معهد الدراسات الأمنية في بريتوريا، إنه يتوقع أن يعد «موجابي» والجيش لتسليم السلطة إلى رئيس جديد، وقال «أعتقد أن موجابي لا يزال بوسعه البقاء في زيمبابوي»، وتابع «أعتقد أنهم سيفضلون تقديمه كرمز للتحرير وإبداء الاحترام اللازم له»، في إشارة إلى أن كثيرًا من سكان زيمبابوي ينظرون إلى «موجابي» على أنه بطل التحرير من الاستعمار. وبحسب وكالة «رويترز» فإن «الكثير من الوثائق السرية أظهرت أن إيمرسون منانغاغوا، الذي عزله موجابي كنائب له، كان يعتزم إنعاش الاقتصاد بإعادة آلاف المزارعين البيض الذين طردوا من أراضيهم منذ ما يقرب من 20 عامًا، وإصلاح العلاقات مع مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي»، وقد يكون ذلك خطوة أساسية في تطمين المجتمع الدولي من «الانقلاب الناعم»، الذي جاء في مواجهة جنون عائلة حاكمة.