منذ انعقد مجلس الشعب المنتخب، وربما بداع من ردود الفعل على بدايات أدائه، ثار في مصر جدل حول تنازع الشرعيات. وليس مثل هذا التنازع بمستغرب، بل هو طبيعي في ضوء استعادة شعب مصر للحيوية السياسية بفضل ثورة يناير المجيدة، بعد أن كان الحكم التسلطي قد قتل السياسة الجادة في مصر. وقد يكون هذا الجدل مفيدا أيضا في توضيح أسس مفاهيم سياسية وقانونية حاكمة مثل السيادة والشرعية. فالسيادة ، في القانون والسياسية، هي مناط الشرعية ومعقدها. ولكن لكي يصح الجدل وتتعافى السياسة في مصر بفضله فلابد أن يتفادى الجميع الاتهامات الجزافية ويستبعدون مظنة التخوين. لم يأت الإعلان الدستوري المجلس الأعلى للقوات المسلحة بجديد عندما نص في المادة الثالثة على أن “السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها”. فالواقع أن الإعلان لو خلا من هذا النص لجاء منقوصا ومعيبا. فلا تنهض أي سيادة تحت الحكم الديمقراطي الصالح إلا للشعب أو من يفوضِّه، أفرادا أوهيئات، في بعض من سلطة الشعب من دون أن يتنازل عنها، في انتخابات حرة ونزيهة، ولأداء مهمة تتعلق بضمان الصالح العام، وفي حالة المرحلة الراهنة في مصر، تبرز المهمة التاريخية لحماية الثورة. ولكن تبقى السيادة دائما للشعب. يمارسها متى شاء، وكيف يشاء. ويظل تفويض الشعب للسيادة دائما موقوتا ومشروطا. موقوتا بفترة زمنية محددة. ومشروطا برضا الشعب، النابع من حكمه بمدى حسن أداء المفوضَين للمهام التي كلفَّهم بها. ويبقى للشعب دائما حق سحب التفويض في أي وقت يشاء من خلال آليات الاحتجاج الشعبي السلمي. وقد كان تعلل بعض الجهات أو الهيئات بإدعاء الصفة السيادية دائما من ألاعيب الحكم التسلطي الساقط للتغطية على فساد التشكيل العصابي الحاكم واستبداده، شاملا مجلس الشعب المزور المنحل. ويحسن أن تختفي هذه التعلة قطعا في ظل الحكم الديمقراطي الصالح. بالمقابل، فإن الشعب وحده هو مصدر الشرعية، ويستطيع أن يمنعها متى شاء. الشعب يمنح الشرعية لمن يأتمن على حكم البلد وحماية الثورة، ويحاسبه على أدائه، ومن نتائج هذه المحاسبة أن يرفع الشعب الشرعية عن من ائتمن ولم يوفق في حكم البلاد أو ضمان نيل غايات الثورة. إذن الشعب، مصدر الشرعية، هو من يضفي الشرعية، على وجه التحديد، على مجلس الشعب، وله أن ينزعها عن المجلس متي ما قدّر أن المجلس لم يأت عند حسن ظنه، سواء في الانتخابات التشريعية القادمة، أو قبلها بسبل الاحتجاج الشعبي السلمي المقرة دستوريا، غن كان تقصير المجلس من الجسامة بحيث لا يحتمل الإنتظار لدورة الانتخابات القادمة. وعلى المجلس والقوى السياسية الواقفة وراءه، من ثم، إبداء الامتنان والاحترام الواجبين للشعب مصدر شرعية المجلس من خلال ضمان حسن أدائه المحقق لمصلحة الشعب ولحماية الثورة. ومن أسف أن بدايات عمل المجلس بقيت أقل مما نرجو من القوى الفائزة في الانتخابات وأقل مما نتمناه لصحة الحياة الديمقراطية الناشئة في مصر. فقد بدا، على الأقل حتى الآن، أن التيارات الإسلامية تحرص على جني المكاسب السياسية في سياق التوافق مع المجلس العسكري الحاكم، أكثر من الحرص على هدفي حماية مصلحة لشعب العليا وغايات الثورة. بل يمكن القول أن هذه القوى تظن، وتتصرف، بمنطق أن الثورة قد نجحت مادام قد دان لها البرلمان، وتوشك أن تشكل حكومة، وربما تدفع أو تؤيد مرشحا للرئاسة، فتتحقق لها السطوة، مباشرة او من وراء ستر على جميع مؤسسات البلد، ولو لم يتحقق إنجاز يُذكر على غايات الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. كما بدأ التيار الغالب يردد نغمة الحكم التسلطي ذاتها، أعطونا وقتا أطول، من منطلق أن المشكلات عويصة وسيستغرق حلها وقتا. وهذا بلا مراء صحيح، ونرجو ألا يكون وسيلة للتسويف الذ ي لجأ إليه الحكم التسلطي في عهد الطاغية المخلوع وأدمنته السلطة الانتقالية. على الجميع، مجلسا عسكريا ومجلس شعب وطامحين للرئاسة وغيرهم، أن يتيقن من أن الشعب يمكن له من حيث المبدأ أن يسحب التفويض من أي هيئة مفوضة من الشعب وينزع عنها أي شرعية، كما فعل مع الطاغية المخلوع، باشتداد الموجات التالية من ثورة شعب مصر الفل، إلى مستوى خلع طاغية. وقد شهدت مصر مؤخرا ظاهرة توظيف أشكال من القوة لصالح قوى سياسية معينة. إن القوة، مهما طغت، أو أسيء استغلالها، لا تؤسس لشرعية. القوة الغاشمة يمكن أن تختطف الإرادة الشعبية لفترة ما. ولكن فترة الاختطاف هذه لابد وأن تنقضي مهما طالت. هذا كان درس إسقاط أعتى نظم الحكم التسلطي الذي استبد بمصر أطول من ثلاثة عقود على ايدي ثورة شعبية سلمية وطاهرة، ونتمنى ألا يغيب هذا الدرس عن الجميع، لاسيما مدعي الشرعية، بالحق أو الباطل. فأبسط مبادئ القانون والسياسة تنص على أن لا سيادة إلا للشعب، وليس إلاها مصدرا للشرعية. وغير ذلك ليس إلا محض إدعاء كاذب يتجمل به من يفتقد الشرعية ويشعر بالنقص جسيما. وعلى وجه الخصوص فإن شرعية القوة الجبرية، على خلاف ما قد يظن بعض الحمقى، هي أوهي الشرعيات قاطبة، واشدها استجلابا لغضب الشعوب ولتجريم التاريخ. نقول هذا بمناسبة محاولة بعض القوى تأسيس قوى أمنية خاصة، أو إختراق قوى الأمن القائمة بتشكيلات تدين بالولاء لقوي سياسية يدين أعضائها بالسمع والطاعة، مع التغاضي عن الإصلاح الجاد لكامل قطاع الأمن في مصر. وفي كل هذا ما يمكن أن يفتح أبواب جحيم الميلشيات الخاصة ذت الطابع السياسي، أو هو الأسوأ، الطابع الديني، وينتهي إلى تمزيق البلد وتحطيم مبدأ المواطنة المتساوية. فليتقوا الله في الوطن وفي مواطنيه.