يقولون إن للهزيمة أبًا واحدًا وللنصر أكثر من مائة أب، وخلال الفترة بين عامي 1967 و1973 انتفض الجميع من أجل استعادة الروح المعنوية ورد الكرامة وإعادة الثقة في الشخصية المصرية والجنود والضباط ضد أسطورة الجندي الاسرائيلي الذي لا يقهر، ولكنه سقط في مثل هذا اليوم قبل 44 عامًا. "انتصرنا وعبرنا".. هكذا طبعت الصحف المصرية في ذلك اليوم، ونقلت عنها كافة المطبوعات والدوريات العربية والدولية، ولكن نقطة التحول الأكبر كانت عند الكيلو 101 على طريق مصر السويس الصحراوي أثناء مفاوضات فض الاشتباك بين الجانبين المصري والأمريكي من أجل عرض شروط الجانب الاسرائيلي عبر الحليف الدائم (الولاياتالمتحدة) بسرعة تخفيض التواجد العسكري المصري بسيناء والتنازل عن مساحات كبيرة من الأرض المصرية من أجل السلام. عندما بكى المشير كان المشير محمد عبد الغني الجمسي، قائد هيئة عمليات القوات المسلحة المصرية فى حرب 73 وأحد أعظم 50 قائدًا عسكريًّا عالميًّا تولى رئاسة الأركان خلفًا للفريق سعد الدين الشاذلي، ثم وزارة الدفاع يتحدث عن تلك الحالة التي وصلنا إليها آنذاك، قائلاً: "يصعب على المرء أن يصف القتال الذي دار بين الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية من جهة وشعب السويس من جهة أخري، وهو القتال الذي دار في بعض الشوارع وداخل المباني". وأضاف "فلم تكن معركة السويس هي معركة شعب المدينة، بل كانت معركة الشعب المصري بأجمعه، ومن ثم أصبح يوم 25 أكتوبر عيدًا وطنيًّا تحتفل به مدينة السويس والدولة كل عام، رمزًا لبطولة أبناء السويس ومثلاً يحتذى به لقدرة الإنسان المصري على البذل والتضحية". بعد مرور 44 عامًا على حرب أكتوبر ما زال يتكرر هذا التساؤل: لماذا قرر الرئيس أنور السادات الدفع بالقوات المصرية في منطقة المضايق بدون غطاء جوي لحمايتهم، رغم اعتراض قيادات الجيش وقتها وعلى رأسهم المشير عبد الغني الجمسي رئيس هيئة عمليات الحرب، والفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الحرب؟ ولماذا صمم أن يُضحي ب 250 دبابة، ويتسبب في قتل آلاف الجنود المصريين؟ الشاذلي كشف الوجه الآخر للرئيس أنور السادات في مذكراته عن حرب أكتوبر، فقرر الرئيس الأسبق حسني مبارك محاكمته بتهمة إفشاء أسرار عسكرية عام 1983، وتم الحكم عليه ب 3 سنوات سجن غيابيًّا. هذا الرجل أكثر شخص ظلمت في مصر، بحسب اللواء محمد علي بلال، مساعد رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، وقائد القوات المصرية في حرب الخليج الثانية 1991، الذي قال "كان الشاذلي مهندس حرب أكتوبر، وكنا نقول كضباط بالقوات المسلحة إن النصر، الذي جاء من عند الله في المقام الأول، كان عماده الفريق سعد الشاذلي". ويضيف "هذا الرجل فعل المستحيل في حرب أكتوبر، بداية من مراحل الإعداد ووصولاً إلى النصر، وأصدر الشاذلي 41 توجيهًا عن خطط عمل الحروب، تشمل كافة النواحي، وما طبقته القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر هو التوجيه رقم 41 بالحرف الواحد، بما فيه تدمير خط بارليف وحتى ردود الفعل الإسرائيلية". ويكشف بلال عن سر الخلاف الذي نشب بين السادات والشاذلي لتدخُّل السادات في الخطة التي وضعها الشاذلي، وأصر على تنفيذها خلال الحرب، وأدى التدخل إلى حدوث ما يعرف بالثغرة، التي كبدت الجيش المصري خسائر فادحة، وثبت لاحقًا صواب رأي الشاذلي وخطأ السادات. اللعبة في يد أمريكا عقب انتهاء معركة أكتوبر أكد الرئيس السادات أن الحرب انتهت و99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، ووقعت مفاوضات فض الاشتباك بين الرئيس المصري ووزير الخارجية الأمريكي عند الكيلو 101 بطريق مصر السويس الصحراوي، وهناك تم الاتفاق على خفض أعداد القوات المصرية في سيناء، هنا اغرورقت عينا الفريق محمد عبد الغني الجمسي بالدموع، ونهض من مقعده، وتراجع إلى ركن قصي في القاعة، وبدأ يبكي. شاهده الجميع، بدءوا يتململون، تأثرت مشاعر الوفد المصري الذي كان يشعر بنفس شعور الجمسي، وكان يمكن أن يري المرء بسهولة علي وجوه الوفد الأمريكي أنهم أيضًا شعروا بالظلم الذي وقع علي مصر، غير أن هنري كيسنجر، وزير خارجية أمريكا، كان لا يفكر إلا في نفسه، وشحب لونه، وظل يدمدم قائلاً: ما الخطأ الذي قلته؟ يقول المشير الجمسي إن المعركة انتهت ب 30 دبابة لنا فى سيناء من إجمالي 300، و7 آلاف جندي من أصل 35 ألف مقاتل، وبعدد محدود من المدفعية، ونص الاتفاق أيضًا على عدم إقامة صواريخ مضادة للطائرات في منطقة 30 كم من الخط الأمامي المصري وإلى الشرق من الخط الأمامي الإسرائيلي. وأضاف: لقد تركت غرفة الاجتماعات بانفعال، ورفضت كل ما ذكره كيسنجر، بعد أن ذكر له "لا أتحدث عن السلام، ولكني أتحدث عن تأمين قواتنا، وليس هناك ما يدعو لتقديم هذا التنازل الكبير الذي قد يترتب علية تهديد أمن القوات المسلحة". كان المشير الجمسي مقتنعًا بأن الحرب لم تنتهِ، وأن وقف إطلاق النار مؤقت. هكذا كانت حالة رئيس أركان الجيش المصري أثناء أول اتفاق لفك الاشتباك والفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية، والذي تم توقيعه والإعلان عنه في 17 يناير 1974 بمدينة أسوان، حسبما جاء في مذكرات إٍسماعيل فهمي وزير الخارجية الذي تقدم باستقالته احتجاجًا علي زيارة الرئيس أنور السادات للقدس. يقول فهمي: "كان السادات قد وافق فجأة علي قصر الوجود العسكري المصري على الجانب الشرقي للقناة على 7 آلاف رجل، و300 دبابة، فأدهش الجميع بمن فيهم كيسنجر والإسرائيليون. ويستكمل فهمي روايته: "عندما عاد الفريق الجمسي إلى المائدة صامتًا كسيرًا، بدأ كيسنجر يغرقه بمديح مسرف، وظل يقول: إن العسكريين الإسرائيليين يقدرون تمامًا كفاءات الفريق الجمسي. وكان يأمل بذلك أن يصحح الضرر الذي أوقعه". حرب تشويه سعد الشاذلي بعد ضرب سلاح الجو المصري وتدميره على الأرض في صباح 5 يونيو 1967، واجتياح القوات الإسرائيلية لسيناء، اتخذت القيادة العامة المصرية قرارها بالانسحاب غير المنظم، والذي أدى إلى إرباك القوات المصرية وانسحابها بشكل عشوائي بدون دعم جوي، ما نتج عنه خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، وانقطاع الاتصالات بين القوات المتواجدة في سيناء والقيادة العامة المصرية في القاهرة، ما أدى إلى حدوث حالة من الفوضى بين القوات المنسحبة، والتي تم قصفها بواسطة الطيران الإسرائيلي. في تلك الأثناء انقطع الاتصال بين الشاذلي وقيادة الجيش المصري في سيناء، وكان عليه أن يفكر في طريقة للتصرف، وخصوصًا بعد أن شاهد الطيران الإسرائيلي يسيطر تمامًا على سماء سيناء، فاتخذ الشاذلي قرارًا جريئًا، حيث عبر بقواته شرقًا، وتخطى الحدود الدولية قبل غروب يوم 5 يونيو، واتجه شرقًا، فيما كانت القوات المصرية تتجهة غربًا للضفة الغربية للقناة، وتمركز بقواته داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بحوالي 5 كيلومترات شرقًا داخل صحراء النقب، من خلال شريط ضيق بعيد عن مسار الطيران الإسرائيلي، وبقي الشاذلي في النقب لمدة يومين 6 و7 يونيو، واتخذ موقعًا بين جبلين لحماية قواته من الطيران الإسرائيلي، إلى أن تمكن من تحقيق اتصال بالقيادة العامة بالقاهرة التي أصدرت إليه الأوامر بالانسحاب فورًا. استجاب الشاذلي لتلك الأوامر، وقام بعملية مناورة عسكرية رائعة، حيث قام بعملية الانسحاب ليلاً وقبل غروب يوم 8 يونيو في ظروف غاية في الصعوبة, ورغم هذه الظروف لم ينفرط عقد قواته، كما حدث مع وحدات أخرى، لكنه ظل مسيطرًا عليها بمنتهى الكفاءة. استطاع الشاذلي بحرفية نادرة أن يقطع أراضي سيناء كاملة من الشرق إلى الشط الغربي لقناة السويس (حوإلى 200 كم) في عملية انسحاب عالية الدقة، باعتبار أن الشاذلي كان يسير في أرض يسيطر العدو تمامًا عليها، ومن دون أي دعم جوي، وبالحدود الدنيا من المؤن، إلى أن وصل للضفة الغربية للقناة، وقد نجح في العودة بقواته ومعداته إلى الجيش المصري سالمًا، وتفادى النيران الإسرائيلية، وتكبد خسائر بنسبة 10% إلى 20%. وكان بذلك آخر قائد مصري ينسحب بقواته من سيناء قبل أن تتم عملية نسف الجسور المقامة بين ضفتي القناة. بعد عودة الشاذلي إلى غرب القناة، اكتسب سمعة كبيرة في صفوف الجيش المصري، فتم تعيينه قائدًا للقوات الخاصة والصاعقة والمظلات في الفترة (1967 – 1969)، وقد كانت أول وآخر مرة في التاريخ المصرى يتم فيها الجمع بين القوات الثلاث، وأثناء حرب الاستنزاف كانت إسرائيل تقوم بغارات خاطفة على منطقة البحر الأحمر، وتتم عمليات اختطاف يومية للمدنيين وتدمير المنشآت على سواحل البحر الأحمر، والتي وصلت ذورتها في حادثة الزعفرانة في 9 سبتمبر 1969. رأى جمال عبدالناصر أن اللواء الشاذلي أنسب شخص يستطيع وقف اختراقات إسرائيل لمنطقة البحر الأحمر وتأمين المنطقة وقام بتعيينه قائداً لمنطقة البحر الأحمر العسكرية في 1970، وتمكن اللواء الشاذلي من وقف عمليات الاختطاف اليومية التى كانت تتم ضد مدنيين وموظفين، كانوا يؤخذون كأسرى من جانب القوات الإسرائيلية في تلك الفترة. في 16 مايو 1971، وبعد إطاحة الرئيس أنور السادات بأقطاب النظام الناصري، فيما سماه بثورة التصحيح، عين الشاذلي رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، باعتبار أنه لم يكن محسوبًا على أي من المتصارعين على الساحة السياسية المصرية آنذاك، ونظرًا لكفاءته العالية ومدى قدرته العسكرية، وخلفيته الغنية التي اكتسبها من دراسته في الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي في العلوم العسكرية إلى جانب تاريخه العسكري.