في الآونة الأخيرة قدمت السلطات السودانية مجموعة من التنازلات على صعيد الساحة الداخلية للسودان والساحة الإقليمية، وحتى فيما يخص القضية الفلسطينية، ويبدو أن كل ذلك لم يشفع لها عند السيد الأمريكي لرفع العقوبات عنها، حيث مددت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، العمل بتجميدها ثلاثة أشهر أخرى، وهي الفترة نفسها التي قرر الرئيس السوداني، عمر البشير، تجميد لجنة عمل التفاوض مع الولاياتالمتحدة خلالها، ردًّا على قرار واشنطن الجديد، وهو الأمر الذي يشير إلى إحباط السودان من خطوة الأمريكية، إذ كانت الخرطوم تطمع في رفعها نهائيًّا. العقوبات الأمريكية على السودان مرت 20 سنة منذ اتخذ الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، قراره بوضع السودان تحت طائلة عقوبات اقتصادية شاملة؛ بدعوى دعم الإرهاب، وتراجعت الآمال برفعها بعد قرار ترامب استمرارها لثلاثة أشهر أخرى يبقى فيها السودان تحت مزيد من التقصي والتقييم. ودعت شخصيات ومؤسسات إلى الارتباط والتواصل الأمريكي السوداني، مثل المبعوثين الخاصين والقائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم، إلى رفع العقوبات، مستندة إلى شهادة فريق الأممالمتحدةالقطري بالسودان بتقدم البلاد في المسارات المطلوبة منه، كالسعي لإيقاف الحرب في مناطق النزاع والتعاون مع الإدارة الأمريكية في الحرب على الإرهاب. مقابل ذلك دفعت جماعات الضغط المعادية للحكومة السودانية في الاتجاه المعاكس، فقد رفع 53 من أعضاء الكونجرس (جمهوريين وديمقراطيين) مذكرة إلى الرئيس الأمريكي، تحثه على إبقاء العقوبات. وحتى تكون الصورة واضحة فإن العقوبات على السودان مجمدة حتى اللحظة، يعني أن السودان لا يخضع للعقوبات الآن، وقرار ترامب هو تأجيل تمديد البت في رفعها بصورة نهائية، والتي كان من المفترض البت فيها أمس، وأخرها إلى ثلاثة أشهر إضافية. القرار الذي اتخذه البشير بتجميد لجنة التفاوض مع واشنطن حتى 12 من شهر أكتوبر المقبل، وهو تاريخ نهاية القرار الأمريكي، ناتج عن حالة من الإحباط، وربما الغضب الذي أشاعه القرار الأمريكي في الشارع السوداني وفي الأوساط الحكومية، التي ترى أن القرار لا يتناسب مع وفائها بالتزاماتها في المسارات الخمسة المشروطة لاجتياز عقبة العقوبات، وهي التعاون في مكافحة الإرهاب، تحقيق السلام في مناطق الحرب في السودان، وصول المساعدات لمناطق الحرب، التعاون في استقرار جنوب السودان، التعاون في تفكيك جيش الرب الأوغندي الذي ينشط في عدة دول إفريقية. وربما أن رد البشير جاء كتعبير عن أن السودان لم يُبقِ شيئًا يمكن أن يقدمه أو يتنازل عنه إلا وفعله، ليتسق مع شروط رفع العقوبات الأمريكية. فعلى المستوى الداخلي أعلن مرسوم، أصدره الرئيس السوداني مطلع الشهر الجاري، أن السودان سيمدد وقفًا لإطلاق النار من جانب واحد مع المتمردين حتى نهاية أكتوبر، وذلك قبل أسبوعين من اعتزام الولاياتالمتحدة رفع حظر تجارى مفروض على السودان منذ 20 عامًا. كما قامت السلطات السودانية بتشكيل حكومة, وإن كانت المعارضة السودانية تجدها خطوة شكلية، حيث أعلن السودان شهر مايو الماضي عن حكومة الوفاق الوطني الجديدة برئاسة الفريق أول بكري حسن صالح، وقالت الخرطوم إن الحكومة الجديدة جاءت معبرة عن مخرجات الحوار الوطني الذي جرى في البلاد في المرحلة السابقة، مع العلم بأن البشير استمر لسنوات بقيادة السودان، دون أن يكون هناك منصب لرئيس الحكومة. كما ظل السودان يتلقى الكثير من الوعود من قبل الولاياتالمتحدة لرفع العقوبات عنه في فترات متعددة، ففي اتفاقية السلام 2005 كان هناك وعد برفع العقوبات، وفي اتفاقية أبوجا 2006 الخاصة بدارفور كان هناك وعد أمريكي آخر، وبتطبيق الاستفتاء عام 2011 تكرر الوعد أيضًا، وبالتالي تتعاطى واشنطن مع الخرطوم على طريقة الطاولة المتحركة كلما استجاب السودان إلى المطالب، تحركت الطاولة إلى الوراء. وعلى المستوى الإقليمي تحول السودان لرأس حربة لتمرير المشاريع الأمريكية في المنطقة، حيث تحول من بلد اللاءات الثلاثة، إلى دولة تحوم حولها الشبهات حول التطبيع مع الكيان الصهيوني، بل إن إسرائيل هي من تتوسط للسودان لدى واشنطن لرفع العقوبات عنه، خاصة بعدما انتقل السودان من محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة إلى محور التطبيع بزعامة السعودية، وأصبح أداة طيعة في يد الرياض لتنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة، خاصة في اليمن ومنطقة مضيق باب المندب، حيث يشارك السودان بقوة عسكرية في العدوان السعودي على اليمن، وبذلك انتقل من دولة مقاومة كان لها دور في إيصال السلاح إلى قطاع غزة، إلى دولة كل همها تطبيع العلاقات مع واشنطن، وبدا ذلك في الزيارات العسكرية والاستخبارية بين البلدين، والحديث عن وجود قاعدة استخبارية ل "سي أي إيه" على الأراضي السودانية. والمتابع لتطورات المشهد السوداني، يجد أن البشير في الآونة الأخيرة يحاول الحفاظ على علاقات قوية مع حلفاء واشنطن في المنطقة، فعلى الرغم من الخلاف السعودي القطري، يحاول البشير إمساك العصا من المنتصف، ليحافظ على علاقته مع الرياض والدوحة، فالبشير يخوض حربًا في اليمن يدفع ثمنها من دماء السودانيين في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، مقابل بعض المزايا الاقتصادية التي تمنحها له بعض الدول الخليجية كالسعودية، والتي قد لا تستمر في ظل احتياج الرياض لمصر في خلافها الخليجي مع قطر، فالسلطات في السودان ومصر ليست على وفاق بعد المشاكل الحدودية بينهما وملف سد النهضة والاتهامات المتبادلة بتدخل كل دولة في الشؤون الداخلية للأخرى.