قد يحار كثيرون في محاولة فهم مملكة الرمال. المملكة التي أنشأها آل سعود ابتداءً من عاصمتهم الدرعية وبالتحالف مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحالوها إلى مملكة عصيةٍ على الفهم حتى بالنسبة لأقرب الأقربين. تحضر أسئلةٌ منطقية كثيرةٌ لا إجابات عملية أو علمية لها: لماذا كل هذا العداء لجيرانهم (إيران/اليمن مثالاً)؟ لماذا هذا الاستعلاء على جميع من يماثلونهم في العرقية (جيرانهم وإخوانهم العرب)؟ لماذا هذا المنطق "الصحراوي" القاسي في التعامل مع الدين (رغم أن ملوكهم لا يمارسون ذلك البتة)؟ وأخيراً وليس آخرا: لماذا هذه التمسّك الأعمى بالغرب "الكافر" والذي يعرفون حق اليقين بأنه ليس حليفاً بمقدار ما هو "شفاطٌ" لأموالهم وأرزاقهم؟ أليس الأفضل مثلاً أن يتشاركوا بعضاً مما لديهم مع إخوتهم في الإسلام (أو العروبة) بعيداً عن أذى الغربي وأطماعه؟ من يريد أن يفهم أكثر عليه أن يعود لعقلية القبائل البدوية التي سادت شبه الجزيرة العربية، وخصوصاً تلك القبائل التي كانت تمتلك "مدناً" تحكمها. كانت تلك القبائل تقوم عادةً بالتناحر فيما بينها على أمورٍ قد يعدها الناظر من بعيدٍ صغيرة، لكن مع هذا فإنهم كانوا مستعدين أن يتحالفوا مع الشيطان كي يتخلصوا من أعدائهم، ولطالما استقوت القبائل العربية وعلى طول التاريخ بجيرانها الأقوياء والغرباء ضد قبائل عربية أخرى وليس أوضح من كلمة جذيمة الأبرش، أحد أهم ملوك المناذرة حينما قال لولده: "يا أبتي؛ إننا ندفع كل هذا، ونعطيهم كل ما يحلمون به ونحضر جيشهم لا لأننا نحبّهم، بل لأننا نبغض هؤلاء أكثر". استعان العرب المناذرة (أو اللخميون) بالساسانيين وإمبراطوريتهم، فيما استعان الغساسنة العرب بالبيزنطيين وإمبراطوريتهم؛ هذه الإستعانات قوّت تلك القبائل كثيراً، لكنها في عين الوقت لم تحمهم من بطش هذه الإمبراطوريات وسطوتها، إذ لطالما عيّنت تلك القوى من تريده أن يحكم في تلك القبائل من غيره. ولاريب أن السعودية اليوم، والتي تحكمها قبيلة لا تزال تفكّر بعقلية القبيلة التي سادت منذ بدايات التاريخ. إنه التحالف مع الإمبراطورية الأقوى ضد إخوانها في كل شيء، هو نوعٌ من السلوك الطبيعي بالنسبة لأميرٍ آتٍ من الصحراء، قد يتشابه الأمر على دارسٍ في السياسة ههنا حينما يشير إلى أنَّ فكرة التحالف هي فكرة "عادية" ومعتادة بالنسبة لكثيرين، لكن قد يبدو الأمر شاقاً حينما تتحالف مع "غريب" و"محتل" بوجه "شقيقك" و"أخيك" الذي من الممكن أن يشاركك في كل شيء ولن يقتلك بعد أن ينتهي خيرك. تحاول السعودية من خلال دفعها بالعلاقات مع الولاياتالمتحدة ورئيسها الحالي "دونالد ترامب"، والذي تم "تكريمه" بطريقةٍ لم يكرّم رئيس من قبل (إذ أحضروا مغنيه المفضل توبي كيث كي يغني له في احتفالٍ سمي ب"العزم يجمعنا" بالإشتراك مع فنان محلي يدعى رابح صقر) فضلاً عن جوائز وهدايا وذهب ومجوهرات وقس على ذلك، إذ يبدو أن "الأعطيات" السمة الأبرز في العصور الجاهلية هي جزءٌ لا يتجزأ من ثقافة القبيلة. أمرٌ آخر لا يمكن استيعابه إذا ما فكرنا به بمنطق العصر الحديث، ألا وهو تلك العلاقة الملتبسة مع الجيران: ما الذي يدفع السعودية مثلاً لمعادة إيران؟ هل الأمر نابعٌ من البعد الديني للأمور (أي الخلافات السنية الشيعية) مثلاً كما تحاول كل أدبيات "النفط" أن تصورها لنا؟ التحليل المنطقي الهادئ يقول أنه لم تكن هناك أي مشكلة –في أي يوم- بين إيران الشيعية إبان حكم محمد رضا بهلوي شاه إيران المخلوع، إذا ما الذي تغيّر بعد العام 1979 (عام انتصار الثورة في إيران)؟ ببساطة تغيّر موقع إيران السياسي، إذ الموضوع ليس دينياً أبداً. لا يخرج الأمر عن كونه ببساطة تمظهراً لفكرة إرضاء الغرب من جهة، والتخلص من أي قوة إقليمية لا تتبع الحليف عينه. ماذا عن التدخل في الشأن السوري والذي خسرته "القبيلة" في اللحظة التي قتل بها زهران علوش رجلها الأقوى في سوريا؛ ما الذي يدفع مملكة الرمال التي لطالما تجنّبت أي تدخل "مباشر" و "ظاهر" في الأزمات العربية إلى الدخول وبكل قوتها إلى تفاصيل الشأن السوري؟ باختصار، هي كانت تطمح إلى لعب دورٍ أكبر وأهم من الدور الذي لعبته في السابق، كانت تطمح ببساطة إلى لعب دور مصر عبدالناصر. دور القيادة في العالم العربي، القيادة التي لم تسلم رايتها لأحد منذ انكفاء الدور المصري بعد كامب ديفيد. ختاماً، لا تبدو عقلية القبيلة السعودية قادرة على الإستمرار في العصر الحديث، وما "المقويات" التي تأخذها المملكة هنا وهناك إلا "تصبيراً" على وضع بات معقداً إلى أبعد درجة: الوضع الداخلي القابل للانفجار في أي لحظة، الوضع الخارجي وخصوصاً في دول التماس (اليمن/البحرين)، العلاقات السيئة مع دول الجوار (إيران/سوريا/العراق)، العلاقات المتأرجحة مع الدول الأوروبية. كل هذه الأمور تقودنا إلى أنَّ السعودية تعيش اليوم أصعب مراحلها، وما استقبال ترامب بهذه الحفاوة و الإستعراضية إلا لإثبات نظرية: أنظروا كم نحن مهمين، إن قائد العالم يزورنا. هذه الفكرة كانت لتكون حقيقيةً وصادقة لو أن الأمر كان كذلك فعلاً، لكن الجميع من أصغر طفل إلى أكبر معمّر يعرفون بأن ترامب لم يأتِ إلى السعودية إلا لتحصيل ما يمكن تحصيله و"سرقته".