أصدر فرع داعش في محافظة ديالي العراقية المتاخمة للحدود مع إيران مقطعا مصوّرا طويلا باللغة الفارسية، في أول تهديد مباشر من هذا النوع لإيران منذ نشأة التنظيم، وفي حدث إعلامي يمثل ضربة قاضية للمزاعم المضحكة التي تتردد أحيانا حول أن داعش صناعة إيرانية، ولا سيما مع احتواءه على لقطات فيديو لمعارك شرسة بين مقاتليه ومقاتلين إيرانيين على الحدود العراقيةالإيرانية. اعتراف بمحاربة إيران لداعش اللافت للنظر هو توازي إصدار المقطع مع حملة عسكرية ضخمة شنتها ما تُسمى ب"الفصائل المعتدلة" الإرهابية في سوريا على أكثر من جبهة شملت حماة ودمشق والقنيطرة وريف اللاذقية، وتستهدف إزاحة ما حققه الجيش العربي السوري من تقدم ميداني على كافة الجبهات في الأشهر الأخيرة، وهي الفصائل المدعومة علنا باستثناء جبهة النصرة المنخرطة معها في الحملة من القوى الغربية وتركيا ومملكة آل سعود، وبلغ طول المقطع المصور حوالي 40 دقيقة وتم افتتاحه بسرد تاريخي طويل لماضي الامبراطورية الفارسية في العهد الساساني مركّزا على الديانة المجوسية للبلاد وقتها، وما تلا ذلك من دخول المد الإسلامي إلى بلاد فارس ثم إقامة الحكم الصفوي فيما بعد الذي حوّل المذهب الرسمي للبلاد إلى التشيع، ووجّه في أجزاء منه اللعنات إلى النظام في إيران لسماحه بوجود المواطنين الإيرانيين اليهود ومعابدهم وبممارستهم لطقوسهم الدينية، واتّهم الخميني قائد الثورة الإيرانية بإقامة حكم ديني في البلاد يقوم فيه رجال الدين بدور رئيسي في الحكم، متهما إياه بمعاداة أهل السنة رغم أنه ذكَر في الوقت ذاته علاقته الإيجابية الوثيقة بمن سماه المقطع ب"المرتد الهالك" ياسر عرفات ودعم الخميني للقضية الفلسطينية. تحريض صريح المقطع موجّه بوضوح إلى المواطنين الإيرانيين السنّة، الذين وصفهم بأحفاد سلمان الفارسي وأهل البأس وحرّضهم على جمع الأسلحة وتدريب الشباب استعدادا للحرب، ولقتال النظام في إيران، مرددا اتهامات مرسلة للأخير بقتل أهل السنة وإعدامهم ودفن النفايات النووية في أراضيهم، دون ذكر واقعة واحدة أو دليل سوى صور فوتوغرافية ولقطات ثابتة مشوّشة لصفحات من مواقع إخبارية على الانترنت، كما تضمن الفيديو تحريضا ساخنا مكثّفا لهؤلاء وآيات قرآنية تدعو للجهاد واصفا وضعهم بالذل والهوان والخضوع، مذكرا إياهم بأن الصحابة قد بذلوا الدماء لتوصيل الإسلام لهم وأن ضريبة الخضوع أكبر من ضريبة الجهاد وأنه لا يغسل الخزي إلا سيل الدماء، ودعاهم إلى تشكيل مجلس شورى قيادي ينظم حربا شاملة ضد الدولة الإيرانية تمهيدا لإقامة ما أسمّاه حكما ذاتيا إسلاميا اغتناما لفرصة تاريخية قائمة وهي وجود داعش، وعرض صورا لمقاتلين إيرانيين سنّة قال إنهم قُتلوا في معارك مع قوات محور المقاومة في سورياوالعراق. وتمثلت الرسالة الختامية للمقطع في الإعلان عن تشكيل ما أسماه كتيبة سليمان الفارسي، مع اصطفاف عدد من الملثمين يطلقون النار بأسلحة فردية حديثة نحو صور لقيادات إيران معلقة على حائط، ثم عرْض رسالة تهديد أخيرة يبدو أنه تم تصويرها في وسط ديالي بين جموع من الناس ويظهر فيها جنود أسرى راكعين يرتدون الزي العسكري الإيراني، قبل أن يتم ذبحهم كعادة داعش بالترافق مع الإعلان المباشر عن اتخاذ ديالي منطلقا للمزيد من المحاولات لدخول الأراضي الإيرانية، وهي المحاولات التي تتصدى لها القوات الإيرانية منذ فترة بالتعاون مع الحلفاء العراقيين. استدعاء تاريخي كاذب ويحمل المقطع المصوّر العديد من الدلالات الهامة من حيث التوقيت ومن حيث بعض المضامين التي احتواها، حيث للمرة الأولى توجه داعش رسالة مباشرة إلى الإيرانيين ذوي المذهب السُنّي والدولة الإيرانية، كما أنها المرة الأولى التي يؤكد فيها التنظيم بوضوح أنه سيوجه إرهابه مباشرةً نحو الحدود الإيرانية على الأرض بعد سنوات من محاربة قوات إيران في أماكن أخرى أبرزها العراقوسوريا، مع رهان طائفي يُعَد نجاحه في حكم المستحيل عمليا على تحرك قطاع من مواطني إيران السنّة عسكريا ضد الدولة هناك، وهذا الرهان في حد ذاته وبالنظر إلى توقيته يكشف أن محاولات داعش لاختراق الحدود هناك قد فشلت في مجملها ولم تحقق أي نجاحات تُذكر مع تكلفتها التي بدا أنها عالية، ويكشف إدراك داعش لانسداد أفق تلك المحاولات مستقبلا أي استحالة نجاحها وبالتالي لم يبقَ إلا لجوئها إلى سُنّة إيران في الداخل تحت العنوان الطائفي، كما تحتاج داعش في الفترة الحالية إلى تحسين وضعها في العراق بعد تراجعها الكبير في الموصل، وإلى ممارسة عقابية ضد إيران ذات الدور العملي بالغ الجوهرية والأهمية في انهزام قوات داعش على الأرض في سورياوالعراق، وهو الدور السابق للتدخل الروسي والمرتكز على العمليات البرية الميدانية لا على النشاط الحربي الجوي. منهج داعش وتحقق في المقطع السمات الرئيسية الثلاث لمنهج داعش، وهي تخدم بامتياز المشروع الاستعماري في الشرق الأوسط والمنطقة العربية من منطلق ثابت وهو التقسيم الطائفي والمذهبي لدول المنطقة وتجلى ذلك في خطابها الموجه إلى مواطني إيران ذوي المذهب السُنّي لتشكيل ما وصفه بالحكم الذاتي. وتضمن وسيلة ذات أولوية مطلقة وهي الذبح والدماء وتجلى ذلك في المشهد المروّع لذبح الجنود الإيرانيين ووضع رؤوسهم فوق أجسادهم مع أناشيد جهادية باللغة الفارسية ولكن كانت هناك نقطة غائبة وهي انعدام البرنامج وتجلى ذلك في غياب أي خطاب سياسي حقيقي أو برنامج سياسي موضوعي يحمل سياسات تخدم مصالح الناس على أرض الواقع.