فى مثل هذا اليوم، التاسع عشر من مارس 1989، رفعت مصر العلم فوق أرض طابا، بعد استعادتها عبر معركة وطنية دبلوماسية طويلة، ليكون ذلك إعلانا عن استعادة السيادة الكاملة على تراب الوطن، وليتحول هذا اليوم إلى عيد قومي لمحافظة جنوبسيناء، بعد نضال استمر 22 عاما لتعود أرض الفيروز كاملة إلى مصر. وكانت هيئة التحكيم الدولية التي انعقدت في جنيف، قد أصدرت في 29 سبتمبر 1988 حكما بالإجماع لصالح مصر، وأعلنت أن طابا مصرية، لكن إسرائيل اختلقت أزمة جديدة في تنفيذ الحكم، وقالت إن مصر حصلت على حكم لمصلحتها ولكن التنفيذ لن يتم إلا برضا إسرائيل وبناء على شروطها، وأمام الموقف المصرى الصلب والواضح تلاشت كل الأوهام الإسرائيلية فى أن تملك موضع قدم فى سيناء، فطلبت إسرائيل إعطاءها مركزا متميزا في طابا من خلال دخولها بدون تأشيرة دخول، فرفض أيضا. بعد نكسة عام 1967 واحتلال إسرائيل لسيناء، خاضت مصر معارك شرسة لاستعادة أرض سيناء، وبالفعل تمكنت القوات المسلحة المصرية في السادس من أكتوبر لعام 1973 من عبور القناة وتحقيق النصر، وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وبدأت عملية الانسحاب الاسرائيلي من سيناء عبر 3 مراحل أساسية وهي: الأولى: النتيجة المباشرة للحرب، والتي انتهت في عام 1975 بتحرير8 آلاف كيلو متر مربع، وتطبيق السلام بين الطرفين، وخلال هذه المرحلة تم استرداد منطقة المضايق الاستراتيجية وحقول البترول الغنية على الساحل الشرقي لخليج السويس . الثانية: في الفترة من 1979 حتى 1982: وذلك في إطار معاهدة السلام، وفيها انسحبت قوات الاحتلال بشكل كامل من خط العريش ورأس محمد، وخلالها تم تحرير 32 ألف كيلو متر مربع من سيناء ليصبح إجمالي الأراضي المحررة 40 ألف كيلو تمثل ثلثي مساحة سيناء. الثالثة: وتم خلالها انسحاب إسرائيل إلى خط الحدود الدولية الشرقية لمصر، وتحرير21 ألف كيلو متر مربع من سيناء. وفي يوم 25 إبريل 1982 تم تحرير كل أرض سيناء ورفع العلم المصرى عليها، عدا منطقة طابا، إذ تلكأت إسرائيل كعادتها ولم تنسحب منها بحجة أن هذه المساحة 1020 مترًا لا تقع ضمن الأراضي المصرية، لتقرر مصر خوض معارك دبلوماسية وسياسية لتحرير هذه البقعة استغرقت 7 سنوات من الجهد. جاء أول إعلان عن مشكلة طابا في مارس 1982 قبل شهر واحد من إتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، عندما أعلن رئيس الجانب العسكري المصري في اللجنة المصرية الإسرائيلية أن هناك خلافًا جذريًا حول بعض النقاط الحدودية خاصة العلامة 91، وحرصًا من القيادة السياسية المصرية على إتمام الانسحاب الإسرائيلي، اتفق الجانبان على تأجيل الانسحاب من طابا وحل النزاع طبقًا لقواعد القانون الدولي وبنود اتفاقية السلام وتحديدًا "المادة السابعة" والتي تنص على أن تحل الخلافات بشأن تطبيق أو تفسير المعاهدة عن طريق المفاوضات، وإذا لم يتيسر حل الخلاف يتجه للتوفيق أو التحكيم. وظلت إسرائيل تماطل في عملية التفاوض والتحكيم لمدة 4 سنوات، إلى أن وافقت في نهاية الأمر، وبعد الضغط من الجانب المصري الذي رفض التفريط في أي حبة رمل من رمال سيناء، على التحكيم في يناير عام 1986، ودخل الجانبان في مفاوضات لصياغة مشارطة التحكيم والتي انتهت في سبتمبر من نفس العام. كانت مصر وقتها واثقة من حقها التاريخي في طابا فاستخدمت كافّة الوثائق الدبلوماسية والقانونية والمخطوطات النادرة لإثبات حقها، ومثلت الوثائق 61% من الأدلة المادية، وخاضت مصر معركة قانونية فريدة بتشكيل فريق وطني كامل ومتنوع من خيرة رجالها عكفوا على إعداد الدفوع والحجج القانونية الدولية اليقينية والوثائق الدامغة والخرائط، ومن الدلائل التي مثلت وقتها تبعية "طابا" للأراضي المصرية، طبيعة المدينة نفسها، حيث شجر الدوم الشهير الذي كان وقتها من أهم مميزاتها، وصور الجنود تحت ظله. ونجحت مصر في النهاية، وبعد العديد من المعارك القانونية التي استمرت لوقت طويل في استعادة طابا، بعد أن أصدرت هيئة التحكيم الدولية حكمها في 27 سبتمبر 1988 بأحقية مصر في ممارسة السيادة على كامل ترابها، فقد تم إثبات 10 علامات حدودية لصالح مصر من مجموع 14 علامة بأغلبية 4 أصوات ضد صوت واحد، وإثبات 4 علامات لصالح مصر بإجماع الأصوات الخمسة، وامتد عمل هيئة الدفاع المصرية بعد صدور الحكم ومراوغات إسرائيل في التنفيذ إلى عقد جولات أخرى من الاجتماعات لتنفيذ الحكم وتسليم طابا بمنشآتها إلى مصر حتى وصلت إلى المرحلة الأخيرة بتسليم طابا في 15 مارس 1989 ورفع العلم المصري عليها في 19 مارس. تمثلت دلائل تبعية طابا للأراضي المصرية، في طبيعة المدينة نفسها، من حيث الاشجار والجبال والاثار والطبيعة الجغرافية وتاريخ النزاع بين مصر والدول الطامعة فيها، وتبقى فقط السؤال حول المواقع الحقيقية للعلامات الحدودية المتنازع عليها التي وصل عددها إلى 14 علامة منها العلامة 91 التي قامت إسرائيل بتحريكها. وتشكلت هيئة الدفاع المصرية من 24 خبيرا بينهم 9 من أقطاب الفكر القانوني، من بينهم الدكتور وحيد رأفت، ومفيد شهاب، إضافة إلى 2 من علماء الجغرافيا والتاريخ منهم يونان لبيب، و5 من أكبر الدبلوماسيين بوزارة الخارجية بينهم نبيل العربي، و8 من العسكريين وخبراء المساحة العسكرية على رأسهم اللواء عبدالفتاح محسن، مدير المساحة العسكرية. وشكلت هيئة التحكيم من أكبر رجال القانون العالميين وضمت القاضي جانر لاجروجرين السويدي, والقاضي بيير بيليه الفرنسي, والبروفيسور ديتريش شندلر السويسرى. وقدمت هيئة الدفاع المصرية آلاف الوثائق والمذكرات والأسانيد الجغرافية والتاريخية والقانونية، التى تؤكد حق مصر التاريخي فيي منطقة طابا, ومن بينها وثائق ترجع إلى عام1274م، وكذلك التقرير الشامل الذي قدمه الكابتن "أوين" عن عملية رسم خط الحدود عام1906, وتم بمقتضاها توقيع اتفاقية بين مندوبي الدولة العليا ومندوبي الخديوية الجليلة المصرية بشأن تعيين خط فاصل إداري بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء، إضافة إلى مجموعة من الأسانيد والوثائق التاريخية من المندوب السامي البريطاني إلى الخارجية المصرية, والمخابرات المصرية عام 1914 وتقارير مصلحة الحدود في عام 1931، كما زارت هيئة التحكيم بعض المواقع على الطبيعة في سيناء. وعلى الجانب الآخر، قدمت إسرائيل لهيئة المحكمة "مجموعة أفكار" استندت فيها إلى كتاب الإحصاء السنوي لمصر عن عام 1906 ومقتطفات من كتاب نعوم شقير باسم "تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها" إضافة إلى وثائق من المخابرات البريطانية عن فلسطين وشرق الأردن تعود لعام 1943 ومحاضر من اجتماعات وزارة المستعمرات في عام1945، لتنتهي المعركة برفع العلم المصري احتفالا بتحرير المدينة التي شهدت أكبر نزاع دولي رغم صغر مساحتها، والتى مر قبل استعادتها من براثن الاحتلال الصهيونى 22 عاما.