بينما كان الشاعر طاهر البرنبالي يقبع في سجون نظام مبارك بمزرعة طرة، سجينًا سياسيًّا، خرجت للنور أولى مجموعاته الشعرية «طالعين لوش النشيد» عام 1989. البرنبالي الذي يقضي عقوبة لانتمائه لتنظيم يساري، ومشاركته في تظاهرات عقب مصرع البطل سليمان خاطر، صدر ديوانه الأول وقد تلقفته الأيادي الناقدة وجمهور العامية المصرية باحتفاء شديد، فقد مثل الديوان تجربة متفردة في الكتابة، وحمل حالة خاصة جدًّا من المفردات الجديدة على القصيدة. يا صرختين من حلق واحد الجرح واحد والجاني واحد واللي بينسى صرخته وقت الألم جاحد وبعد عقود من ديوانه الأول، يكتب البرنبالي الآن قصيدة المرض القاسي بكل جسارة وتماسك، وهو الآن يرقد في غرفة العناية المركزة بأحد مستشفيات القاهرة، يصارع مرضًا لعينًا. البرنبالى الذي ولد في قرية برنبال بكفر الشيخ عام 1958 كان أحد أهم النشطاء والمناضلين السياسيين ضد نظام مبارك خلال فترة دراسته للطب البيطري بجامعة الزقازيق، حتى تم اتهامه في إحدى القضايا السياسية، وخرج ليكمل مسيرته السياسية والشعرية، ويتابع الاحتفاء النقدي الكبير بديوانه الصادر عن سلسلة إشراقات أدبية بالهيئة العامة للكتاب، وقد كتب مقدمته الناقد الدكتور سيد البحراوي. ولا واحد يقدر يخطف مني ومنك طعم الدهشة أو تنهيدة حزن قديم ولا يقدر يسرق ملح الجرح الغامض أو بسمة وش انطبعت تحت جدار الشمس ولا يقد ياخد بهجة صخر الليل الوردي.. الساكن بطن الإيد يا ابو العيون ملو القمر أوصاف طالعين لوش النشيد ينتمي البرنبالي إلى ما يعرف بجيل الثمانينيات في الشعر، الذي يتشابه في العديد من الصفات الفنية، حيث امتلك قدرة على استخدام الرمز وتكاثر الصورة الشعرية المركبة في أعماله، وتعتبر أعمال البرنبالي الأشد وضوحًا فى هذا السياق، وتجلت حالة الرفض لدى الشاعر من خلال صور أكثر تعقيدًا وتركيبًا في ديوانه الثاني «طفلة بتحبي تحت سقف الروح» الذي صدر عام 1994 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، والذي حمل روحًا من الألم تجاوزت ما هو مطروح على الساحة الشعرية آنذاك، لكنه لم يخفِ أملًا بين ثنايا قصائده. زمن الخريف بيسابق المجاريح واتشد يا خوف المواسم ريش لا تكون برعشة بدن محموم ندم ولا تسند المواعيد على كتف أحزاني شايل لبكرة م الحنين مرايات ورغم التكثيف الواضح في الصورة الشعرية، إلَّا أنه استخدم لغة أكثر تناغمًا، وتعالت الموسيقى الشعرية للنص بشكل كبير، وكأن الأغنية بدأت تراود البرنبالي في تلك المرحلة. قولى لأبويا ان الولد طاهر من فوق سطوح الألم حَمْحِم بكفه للحمام غَلَّه مسحت خدود الشمس دمعتها هي الجريئة الجريحة واللي ما دام عيدها مش كان بيفرح والحمام زغاليل ويرتفع صوت الشاعر بالحزن، ويمتلك قدرًا أكبر من الشاعرية والغنائية في ديوانه الثالث «طارت مناديل السعادة» الذي صدر في عام 1999، ثم يأتي ديوانه «طريق مفتوح في ليل أعمى» 2004، الذي حاول خلاله استعادة ثقتة وإطلاق طاقات الأمل في القدرة على الحلم بوطن أجمل وأكثر عدلًا وحرية. اللي بانيين الحضارة.. ما بيعرفوش الموت الخلود في البُنا والنقش على الجدران وعقب هذا الديوان مر البرنبالي بأزمة صحية عنيفة استمرت عدة سنوات، لكنه يسجل تلك التجربة من على فراش المرض في ديوانه «طلعت دار الفؤاد» 2007 نسبة إلى مستشفى دار الفؤاد الذي كان يرقد به، وصدر ديوانه التالي «طرطشات الذات والبنات» في العام التالي 2008. هو الشاعر الذي غنى للوطن وناضل من أجله ودفع ضريبة هذا النضال سنوات من عمره خلف القضبان، وظل يطلق شعره عبر صفحات «البديل» خلال عام 2008، وبشكل يومى جاب قرى مصر ومدنها مرددًا أغنياته. ما لناش بديل إلَّا اختيار المستحيل إلَّا انتصار الفجر على الليل الطويل ما لناش بديل ومن المؤكد أنه لا بديل سوى أن يواصل البرنبالي مقاومته للمرض، ويعود لنشاركه الحلم في وطن أكثر جمالًا وعدلًا وحرية.