في المسرحية التراجيدية المشهورة [أوديب ملِكًا] للكاتب اليوناني سوفوكليس، حين تصلُ المسرحيةُ إلى قمتها، وتُحكَم العقدة لنهايتها، ويعلم أوديب أنه قاتلُ أبيه وأن امرأتَه هي أمُّه، وبالتالي فإن ابنتَه منها هي ابنتُه وأختُه في نفس الوقت. يستدعي أوديب الراعي الذي وجده وهو رضيع مصفدَّ القدمين – وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة أوديب باليونانية – ليسأله وهو يضغطُ على كتفه: أكان هذا الطفلُ من دمِ أحدِ العبيدِ أم من دم الملك؟! وهو مشهدٌ تتمثل فيه قمةُ التراجيديا والأسف. كانت تلك المسرحية وغيرُها من مُترجمات الأدب العالمي تجدُ لها جمهورًا على المسارح المصرية في بدايات القرن الماضي. وفي واحدٍ من تلك المسارح أدى الأستاذ جورج أبيض دورَ أوديب ببراعةٍ شديدة، كان يضغطُ على كتف الراعي صاحب ال 120 عامًا بشدة، ويسأله: من دمِ أحدِ العبيد أم من دمِ الملك؟ فيقع الراعي على الأرض من شدة الضغط ... ويضحك الجمهور، في مشهد يستوجب الأسف بديلًا عن الضحك. [عبد الوارث عسر] كان دور الراعي يؤديه الفنان عبد الوارث عسر، لم يُرضِهِ أن يضحكَ الجمهور في مثل هذا المشهد، فأخذ يَدرسُ جنباتِ المشهد وأسبابَ الضحك. وجد أن اهتزازَ اللحيةِ الطويلة وارتعاشَ الراعي صاحب الظهر المنحني ثم سقوطَه على الأرض يؤدي بالمُشاهد إلى تلك الضحكات. أراد أن يَحل تلك المشكلة فقَطَع تذكرة عند أحد الأطباء الكبار ودار الحوار التالي بينهما: - هل يمكن أن يصل الرجلُ إلى الشيخوخة العليا – 120 عاما – ولا يرتعش؟ - بالطبع. - كيف. - يكونُ مصابًا بالتَّصَلُّب، فيتحرك ببطء ويتكلم ببطء. - ألف شكر. وجد الأستاذ ضالتَهُ، فمثّل المشهد بصورته الجديدة بعد أن استبدل اللحيةَ الطويلة بأخرى عريضة وكثة، فاستبدل بضحكات الجمهور الأسفَ المطلوب، ووصلَ المشهدُ إلى قمة الدراما، كما كان مقدرًا له. إلى هذا الحد كان الممثل يحاول أن يتقنَ عملَه، لدرجة زيارة الطبيب ليسأله عن عَرَضٍ آخر من أعْراض الشيخوخة... وها نحن الآن بعد أن وَجد المسرحُ طريقَه للجمهور مرة أخرى، نجد التفاهة في أسوأ صورها، حيث لا نصَّ، ولا إبداعَ، ولا أداء، ولا أي شيء سوى أموالٍ طائلةٍ تنفق على أداء رديء. يَخرجُ أحدُهم على المسرح، فيرتجل كلامًا مُبتذلا، وإيحاءاتٍ لا أخلاقية، وما أن يلتقط أول ضحكة من الجمهور، حتى يبدأ مسلسل التكرار السقيم لنفس الكلمات البذيئة. هذا هو الفارق بين فنان وبهلوان. سيظل الفن في نظري هو البقاء، فحين أُسأل عن رأيي في أي عمل فني، أردُّ السؤال بسؤال: كم مرة تستطيع أن تشاهد ذلك العمل؟ فالأعمال التافهة يشاهدها المرء مرة واحدة، وقد ينفعل معها وقتيا إلا أن قدرتها على البقاء منعدمة، أما العمل الجيد فيكاد يكون خالدًا. فما زلنا في أعيادنا نشاهد المسرحيات نفسها التي أُنتجت منذ عشرات السنين، وما زلنا نتأثر لها، نضحك لمشاهدها، ونحفظ فصولها، وفي النهاية نعتبر بهدفها... وقد يسأل سائل عن سر إقبال الجمهور على تلك الأعمال التافهة رغم ما زعمْتُه من الرداءة وانعدام البقاء. أقول: إن هذه هي أزمة الفن ككل، فقد ظهر بيننا أناس يهاجمون الفن بشكل عام، مما أدى بالمواهب المحترمة إلى الاندثار والابتعاد عن الفن باعتباره عملًا مشبوها، فوجد المنحط الطريقَ فسيحًا لا يزاحمه فيه أحد. واستسهلَ المنتجون طريقة جني المال عن طريق اللعب على الغرائز، فلم يعد همهم نصًّا قويا أو فنًّا راقيا، وابتعدت الدولة عن الإنتاج فاتسع لهم الطريق أكثر فأكثر. ثم زاد الطينَ بلةً طائفةٌ من النقاد ادعو أن الفن للفن، بمعنى أن يؤدي الفنان الدور الموكل إليه دون أي رؤية أو هدف أو رسالة، وهم مخطئون كل الخطأ فالفن للمجتمع وللحياة، والفن ينعكس على أطفالنا وشوارعنا، ومع التدني يجد المراهق التافه مرآة له على المسرح التافه فتتصل الحلقة ... فانظر ماذا ترى؟