أسوأ ما يمكن أن تقع فيه الرؤية الوطنية في مشروع سد النهضة، من سوء فهم و سوء تقدير، أن تنظر إليه أولا من زاوية ضيقة فتراه موقعا طرفيا أو موقعة جانبية، مجتثة الصلة بعملية الانقلاب الاستراتيجي الكامل في بيئة الإقليم، والتي تجري علي قدم وساق، بمعني ألا تراه عضوا وظيفيا مزروعا في جسم الاستراتيجية المضادة لمصر وللإقليم العربي، وأن تفصل بالتالي بين أطرافه وأطرافها، وأدواته وأدواتها، وأهدافه وأهدافها، علما بأن ما يتقد في قلب هذه الاستراتيجية المضادة يقطع بأنها استراتيجية استحواذ وسيطرة وتحكم، ولذلك فإن الممرات المائية والمجاري المائية وعقد المواصلات الأساسية، والمواقع الاستراتيجية الحاكمة للإقليم من أوله إلي آخره، هي ميدانها الحقيقي ورقعة حربها الممتدة المتعددة المنصات والأسلحة، ولذلك فإن نصيب مصر منها هو الأوفر والأكبر، فمصر هي المفتاح وهي البوابة وهي الغاية وهي الجائزة الكبري. وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع، من سوء فهم وسوء تقدير، أن تنظر إليه–ثانيا–من لحظة ضعف، فتري أنه غدا قدرا حالا لا سبيل إلي دفعه أو الفكاك منه، بعد أن سبق السيف العزل كما يقال، فقد أبرمت عقود المشروع وجهزت خرائطه، ووقع فعله علي شريان النيل الأزرق، تحويلا وتبديلا لمساره، وأن رصاصة المشروع قد غادرت فوهة البندقية المصوّبة نحو مصر، ولا سبيل أمام مصر سوي أن تقلل من خسائرها، بحيث لا تكون الإصابة مباشرة في الرأس أو في القلب، مع العلم بأننا لسنا أمام رصاصة، وإنما أمام قنبلة انشطارية، إذا وصل تأثيرها إلي أية نقطة في الجسد المصري، فسوف تطول شظاياها القاتلة كل خلاياه، وجميع وظائفه الحيويّة، أي أننا أمام تحد وجودي، يطول الكيان الوطني كله، وحتي مع فرضية تجاهل حسابات المخاطر التي تطول الوجود الوطني، فنحن في الحد الأدني أمام ما يشكل أكبر وأخطر عملية إكراه وابتزاز لأمة في التاريخ، وهي الأخطر والأكبر لأن هناك من سيجلس علي رأس النهر، ممسكا بسكين حاد قادرا طوال الوقت علي أن يقطع شريان الحياة عنا، وأن السكين وإن كانت في يده، فإن قرار استخدامها في يد سواه، وهو محدد ومعروف، وأن التلويح باستخدام السكين أو الشروع فيه، سيكون ممتدا وسيكون أكبر وأخطر رادع لمصر في تاريخها، لأن درجة انضباط كمية المياه المسموح بمرورها إلي مصر، لن تحدده حقوقها أو حاجاتها، وإنما ستحدده درجة انضباط سلوكها وامتثالها لما يفرض عليها استراتيجيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، وفي سياق هذا التحدي الوجودي ذاته، فإن هناك بعدا آخر، لا يقل خطرا وهو جسم السد ذاته، الذي لا يزيد معامل الأمان فيه علي 1.5%، وإذا كانت بعض التقارير الأمريكية في ضوء حسابات الأمان قد أعطته عمرا قادرا علي البقاء والصمود دون أن ينهار يتراوح بين 20 إلي 25 عاما، فإن آخر تقرير ألماني يتسم بحسابات أكثر دقة، قد أكد أن إمكانية صموده دون انهيار تتراوح بين 7 أعوام وبين 12 عاما في الحد الأقصي، أي أن هناك بوضوح شديد إلي جانب جميع الأخطار الأخري المتعلقة بشريان الحياة في مصر، وببوار أراضيها وهلاك الزرع والنسل فيها خطرًا أكبر، لا يخرج عن كونه قنبلة هيدروجينية من وزن ثقيل غير مسبوق، سوف تظل معلقة فوق رأس السودان ورأس مصر، تنتظر ساعة قدرية محتومة لانفجار هائل، لا تحتاج آثاره المدمرة ونتائجه الوخيمة إلي تكرار أو توضيح، لأن الجانب الأكبر من آثاره ستؤدي تفاعلاتها تلقائيا إلي عملية أقرب إلي الإبادة الواسعة، لا لأدوات الحياة في السودان ومصر فحسب، وإنما لملايين السودانيين والمصريين، وفضلا عن فعل القدر الطبيعي الذي يحتمل انهيار السد بعد سنوات معدودة، فمن ذا الذي يستطيع أن يقطع جازما باستبعاد فعل آخر ليس من أفعال القدر أو أفعال الطبيعة، وإنما من أفعال البشر أو أفعال الشر، يمكن ان يؤدي إلي تفجير السد وانهياره، علي غرار تفجير برج التجارة العالمي مثلا، وسواء في الحالتين أكان الخطر المتوقع من أعمال الطبيعة أو من أعمال البشر، فكيف لمصر ان تمارس حياتها الطبيعية وهناك قنبلة هيدروجينية من وزن ثقيل معلقة قرب رأسها، قابلة بعد زمن قصر أو طال لأن تنفجر محدثة في كيانها وبشرها فعلا من أعمال الإبادة؟! وكيف لها حتي إذا خرجت بسنواتها العجاف من احتمال مدمر قائم، أن تكون فضلة دورها القيام بتوريثه لأجيالها الصاعدة أو القادمة، في محيط سنوات يزداد فيها الخطر المحدق كلما تراكمت؟! قد يأخذ الرد علي ذلك شكل استفهام استنكاري، حول الضمير الإنساني، مستبعدا أن تكون هناك خلايا في هذا الضمير الحي، يمكن أن تري مشروعية في عمل من أعمال الإبادة البشرية، والجواب علي ذلك، أن هذه الخلايا حية وفاعلة وصاحبة نفوذ كبير، في متون فقه العولمة، فوفق كتاب 'تقرير لوجانو: مؤامرة الغرب الكبري' تورد 'سوسان جورج' جانبا من المنحني الفلسفي في أحد هذه المتون، إذ يقول التقرير بالنص: 'إننا لا نستطيع أن نبقي علي نظام السوق الحر الليبرالي، ونستمر في الوقت نفسه في السماح بوجود هذه المليارات الزائدة من البشر، ولن تتحمل الحضارة الغربية التي لا تمثل سوي 15% من سكان العالم الآن ثم 10% ثم 5% التضحية بقوتها وثروتها وسلطتها ورفاهيتها وهيبتها إذا ما هو الحل؟ يضيف التقرير: 'الطريقة الوحيدة لضمان سعادة ورفاهية الأغلبية، أن يكون إجمالي سكان الأرض أقل نسبيا وقد يبدو هذا الخيار قاسيا، لكنه خيار يمليه العقل والعاطفة معا، وليس هناك بديل إذا ما أردنا أن نحافظ علي النظام الليبرالي، وأي أمر آخر وهم وتعلل بالأماني، وهذا المسار ليس لازما اقتصاديا واجتماعيا وايكولوجيا فحسب، بل نؤمن كذلك بأنه مبرر أخلاقيا 'لماذا؟' كما أن القاذورات والنفايات الاجتماعية–البشر الزائدين–تعرض للخطر المثل والقيم الليبرالية والسوق، فحينما يؤدي تكاثر السكان إلي إحباط كل جهود تحسين الأوضاع، فعلي القرن الحادي والعشرين أن يختار بين التحكم والانضباط، أو الجلبة والفوضي، ما هو المطلوب إذا: تخفيض سكان العالم عند أربعة بلايين نسمة عام 2020، بدلا من ثمانية بلايين نسمة، كما هو متوقع، وينبغي ان تحدث تسعة أعشار هذا التخفيض أو أكثر في البلدان الأقل تطورا. وفوق هذا المسار الشاذ لحضارة غربية تموت فيها الروح، حسب تعبير فيلسوف غربي، ويبقي هيكل الجسد محاصرا بأزمة هيكلية مستحكمة، فليس مستبعدا أن تحظي أعمال إبادة الفائضين عن الحاجة من أمثالنا، بمباركة نزعة أخلاقية مستحدثة. وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع، من سوء فهم وسوء تقدير، أن تنظر إليه–ثالثا–من موقع استضعاف فتري أن حسابات تكلفة المواجهة ماديا وسياسيا، والمسافة فوق خرائط الجغرافيا، وحسابات القوي والقدرات، فوق خرائط الموازين العسكرية، لا تترك مساحة واسعة لإمكانية التلويح باستخدام خيار القوة المسلحة لنفي الخطر، وتصفية التهديد، وحتي لو كان ذلك كله يشكل قيودا لا فكاك منها، فإنه لا ينبغي أن يتحول إلي قناعة راسخة في داخلنا، لأننا إذا بدأنا في الهبوط علي سلالم الخيارات المتاحة أو الممكنة، فسوف ننتهي سقوطا مذلا عند العتبة السفلي بغير بديل، سوي أن نرفع أيدينا بالدعاء ونملأ أفواهنا بالتوسل والرجاء، إنني باليقين ضد خيار الحرب واللجوء إلي استخدام القوة المسلحة لأسباب أخري غير تلك الأسباب التي يتم الترويج لها، أهمها يتعلق أساسا بأننا أمام حالة استفزاز واضحة للكرامة الوطنية، وهي حالة معلنة ومخططة، لا يمكن أن يستبعد من بين أهدافها فرض خيار الحرب علي الجيش المصري، بغية احتجاز قوته الضاربة خارج حدود الوطن، مع كل التهديدات البازغة باستخدام القوة، التي تلمع في الفضاء الوطني، وعلي حدوده غربا وشرقا، لكن ذلك لا يعني مطلقا حتي مع استبعاد خيار الحرب، أن تخرج كل هذه الأصوات عبر صفحات الإعلام، بما فيها أصوات وزراء ومسئولين رسميين لتعلن بصوت جهور، أننا نتعهد بإسقاط هذا الخيار من أيدينا، إما في تعليل البعض، لأننا لا نمتلك القدرة، وإما في تفسير البعض الآخر، لأن المناخ من حولنا لا يحتمل ذلك، وبغض النظر عن التعليل أو التفسير، فقد كان من الضروري أن يبقي الخيار، جزءا من عملية ضغط مركبة للمواجهة، فليس مطلوبا أن يكون معلنا في أي حديث رسمي لا بالتلويح به ولا بالتبرع المكاني بإسقاطه، لأننا في الحالتين نكشف عن جانب من نوايانا، وفي المعارك جميعها سياسية أو استراتيجية أو عسكرية أو غير ذلك، ينبغي أن تكون النوايا مستورة لا مكشوفة، ومضمرة لا معلنة. وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع، من سوء فهم وسوء تقدير، أن تنظر إليه–رابعا–خارج سياق حركة التاريخ وأمواجه المتدفقة، وصراعاته المتصادمة، مع الكتلة الحضارية المصرية، فلم تتوقف عبر تاريخ الاستعمار في مصر وفي جوارها الأفريقي محاولة استخدام شريان الحياة المصرية كسلاح سياسي، وتوجيهه سيفا مشرعا في صدر مصر، وقد كان الهدف الاستعماري القديم والحديث واحدا، وهو تهديد مصر سياسيا والتحكم فيها وكسر إرادتها الوطنية، فحين بدأت حركة الكشوف الجغرافية في القرن السادس عشر، وقفزت البرتغال عبر سواحل البحر الأبيض، واحتلت مواقع في الشمال الأفريقي، بدأت بالمغرب ثم دارت حول رأس الرجاء الصالح، ووصلت إلي الهند، ثم أخذت في مطاردة دول المدن العربية، علي طول سواحل شرق إفريقيا، صاغ البرتغاليون تحالفا مع الحبشة، كانت أهم محاوره ضد مصر، وكانت أهم علاماته مشروعا برتغاليا حبشيا مشتركا، لقطع شريان مصر المائي بتحويل مجري النيل الأزرق ذاته من الحبشة، والقذف به في البحر الأحمر، لكي تهلك مصر عطشا وجوعا، ولم يكن المشروع أكثر من ضرب من الخيال، وإن كان ناطقا بالنوايا الاستعمارية حد الإيذاء بل حد الإفناء والإبادة، أما دور الاستعمار البريطاني في ذلك، فلم يكن خلال مراحل تالية أقل حقدا، سواء خلال فترة احتلاله للسودان أو لأوغندة وكينيا وتنزانيا، فهو الذي دأب علي وضع مصالح دول حوض النيل، في حالة تعارض وتصادم مع المصالح المصرية، وهو الذي أيقظ حواسها تجاه موارد مصر المائية، ولم يكن المشهد المسجل في مجلس العموم البريطاني، بعد إقدام مصر علي تأميم قناة السويس، وقبل بدء الحملة العسكرية بما تضمنه من خطابات تطالب بتحرك بريطاني عاجل، لمنع تدفق مياه النيل إلي مصر منقطع الصلة بذلك كله، أما مشروع السدود الإثيوبية فهو منتوج تقرير أمريكي عن النيل الأزرق، قدم إلي إثيوبيا في أوج معركة السد العالي، في عام 1964، وتضمن 26 موقعا لإنشاء سدود عليه أهمها أربعة مواقع من بينها سد النهضة. وأسوأ ما يمكن أن تقع فيه هذه الرؤية للمشروع، من سوء فهم وسوء تقدير، أن تنظر إليه–خامسا–من زاوية ذاتية ضيقة، باعتباره فقط استحقاقا طبيعيا لإهمال طال لثلاثة عقود، واتصل بعد الثورة من جانب مصر، ولا أحد يستطيع أن يدافع عن سوء تقدير وسوء تصرف، في إطار سلطة قَزَّمت مفهوم الأمن القومي، في حدود مخفورة عسكريا، وغير محصنة استراتيجيا، أو هبطت بالسياسة الخارجية إلي نمط أطلقت عليه في حينه 'دبلوماسية الملاينة' وهي سياسة غيرت من أولويات فعل السياسة الخارجية، فوضعت التوجه نحو أمريكا وأوربا هو المحور الأول، الذي يحظي بالاهتمام المطلق، ورغم أن ما حدث بعد الثورة حتي الآن، قد زاد في تقزيم مفهوم الأمن القومي، وقد نزل بدبلوماسية الملاينة إلي درك أسفل من دبلوماسية المساندة لعملية التغيير الاستراتيجي في الإقليم، تحت وهم مصالح فوق وطنية، لكن ذلك كله لا يعني أن نقع في ضلال مبين، بشأن تراث مصري تراكم لعقود في دول القارة، ومازال يتنفس في بعض أركانها، فالمطلوب هو نفض الغبار والرماد الذي تراكم فوقه بفعل الإهمال والزمن، وإعادة كشف جوهره الثمين، فكما كانت مصر هي المعبر الذي دخلت منه المسيحية إلي أفريقيا، كانت ايضا الجسر الذي طواه الإسلام إلي هناك، فمصر هي التي أعطت القارة أديانها ومعتقداتها السماوية، وقد لعب الجامع الأزهر دور المنارة الكبري، في نشر التراث الإسلامي، والحضارة العربية الإسلامية، ثم إن مصر هي التي قادت حركة التحرر الكبري في القارة، وهي التي أعطتها من عصارة ثورتها وفكرها ودمها، ما اصطبغت أعلام التحرير، التي رفرفت بعد قرون من العبودية والاستعمار في آفاقها الواسعة، إن لدينا مخزون رأسمال وطني هائل في أفريقيا، ولكنه مُصَادَر ومجمد، ولذلك فالمطلوب ليس تجاهل الماضي، وإنما إيقاظه وبث الروح فيه والبناء فوقه. *** لا أستطيع أن أعطي عقلي لما نشرته إحدي الصحف الإثيوبية، عن أن غض الطرف مصريا عن مشروع السد ومخاطره، كان محل صفقة بين السلطة في مصر والحكومة في إثيوبيا، ليس فقط لأن ما نشر عن أن عائد الصفقة مليار دولار وهو مبلغ يكاد أن يكافئ بيع أهرامات مصر مقابل دولار واحد، فضلا عن أن عقلي يبدو عاجزا عن بناء صورة لذلك، يمكن أن تتسم بالواقعية، كما أنني لا أستطيع أن أصدق أمام ما يمثله السد من تهديد وجودي لمصر، أن عاقلا واحدًا يمكن أن يري فيما قيل عن وعود إثيوبية بعدم المساس بحصة مصر من المياه، أمرا يمكن التعويل عليه أو الاطمئنان إليه، وأي حديث بهذا الخصوص هو لغو وضلال وتضليل، ولذلك فإن كثيرا من تصريحات المسئولين في هذه السلطة، لا تفسير ولا تبرير لها يمكن أن يسكّنها في سوء الفهم أو سوء التقدير أو حتي في سياق التهوين، فسوف تبقي فيها في كل الأحوال مساحة غامضة تستعصي علي الفهم، لماذا يتحدثون عن تفعيل مبدأ التفاوض مع إثيوبيا وهم يدركون تماما أنه مغلق من جانبه الآخر؟ ولماذا يكررون مسألة الطمأنة الإثيوبية للدكتور مرسي، رغم أن هناك إدراكا عاما بأن إثيوبيا تفرض أمرًا واقعًا يعبر عن سوء قصد وسوء نية معا، فوفقا للمفاوضات بين الجانبين كان مفترضا البدء في عملية البناء في سبتمبر المقبل، وبعد انتهاء اللجنة الثلاثية من تقديم تقريرها، رغم أنه لا يمثّل مرجعية حاكمة لقبول أو رفض المشروع، ومع رفض إثيوبية العلني أن تقدم للجنة وثائق كاملة تخص بنية المشروع، ورغم أنه لا يجوز اتخاذ أي إجراء يمس حقوق وحصة مصر من المياه، دون إخطار سابق، ومع هذا الخطاب الإثيوبي المتربّص، الذي يتحدث إعلاميا عن كسر إرادة مصر، وعن لسان سفيرها في القاهرة الذي لخص الحل في أن تذهب مصر لتحلية مياه البحر، علما بأن تكلفة المتر المكعب الواحد تتجاوز خمسة جنيهات، ولذلك قد تجد تفسيرا لتصريحات وزير الري، عن أن الخطوة الإثيوبية لا يجب أن تزعج مصر حاليا، في أن الرجل يدافع عن قصور دوره، وفشله، حتي في التعامل مع أزمات الري الداخلية، لكنك لا تستطيع أن تجد تفسيرا مقنعا لقول الدكتور عصام الحداد 'إن معارضة سد النهضة تعزز صورة سلبية لمصر في إفريقيا' فهذا كلام لا يغطي علي الفشل أو القصور، ولكنه يمثل نزعة واضحة إلي تقويض المعارضة المصرية للسد، وإلي القبول المذعن بأمره الواقع، بل إنه يفتح الجسور أمام المشروع لكي يعبر آمنا مطمئنا إلي حيث يريد، دون أن تعرف علي وجه التحديد لصالح من ولحساب من، لقد ظل ملف السد بين يديه طوال الأشهر الماضية وقد تراكمت حول الملف وداخله، علي امتداد الأشهر الستة الأخيرة، تقارير أمنية مستفيضة حول التحركات والأهداف والشركاء، وتفاصيل الأعمال في الموقع، منبهة ومحذرة من حجم المخاطر الجسيمة، التي تفتح أفواهها لتبتلع مصر، ومع ذلك ران السكون والقعود والجمود دون قول أو فعل، لتزداد مساحة الغموض غموضا بهذا الحديث، الذي يريد أن يقايض مستقبل الكيان الوطني كله، بادعاء الحفاظ علي صورة معلقة لمصر في مخلية جانب من أفريقيا، وليلتقي هذا الغموض مع غموض آخر، يتعلق بائتلاف التحالف الغربي والإقليمي حول المشروع، وإذا استثنينا الصين التي تمد استراتيجية ثابتة صوب إفريقيا، وإيطاليا التي استيقظت حواسها كدولة احتلال سابق لإثيوبيا، فلك أن تتصور أن أول تهنئة بالمشروع صدرت عن الإقليم كان مصدرها تركيا، ولك أن تتصور أن تركيا نفسها التي تلعب الدور نفسه، بخصوص حقوق سوريا والعراق في مياه دجلة والفرات، قد قدمت عروضا لاستثمار جوانب في المشروع بنظام الBOT لمدة خمسين عاما، ولك أن تتصور أن قطر بدورها ليست بعيدة عن مصادر التمويل شأنها شأن دول خليجية أخري اندفعت إلي المشاركة في المشروع بقوة دفع أمريكية، ولك أن تتصور أن اليد العليا القابضة علي المشروع هي يد إسرائيل، فتحكمها في قلب المشروع المنتج للكهرباء، بقوة إنتاج ضعف السد العالي ثلاث مرات، يعني تحكمها في مخزون وصرف المياه، وفيما يتم حبسه أو السماح له بالمرور إلي السودان ومصر، ولك أن تتصور أن يد إسرائيل علي هذا النحو لن تقبض علي قلب كهرباء السد، وإنما علي قلب مصر، ولك أن تتصور بعد ذلك أن الدول الفاعلة في تمرير الانقلاب الاستراتيجي الكبير في الإقليم بقيادة الولاياتالمتحدة هي نفسها الدول الفاعلة في تمكين المشروع من الخروج إلي حيز الوجود، ربما عند ذلك يتبدد جانب من الغموض، وربما عند ذلك تستطيع أن تقرأ ما كتبه الصهيوني 'أرتوني سوفر' رئيس مركز الأبحاث الجغرافية الاستراتيجية في إسرائيل، عن آثار السد علي مصر باعتباره يكتب متلذذا مرثية في مصر، وهو يقول: 'إن مصر علي وشك أن تشهد كارثة وانهيارا تاما، إنها تنتظر كارثة مائية وغذائية وفوضي مطلقة، ولو لم تبن إسرائيل سورا علي حدودها لواجهت ملايين المصريين في يأس تام للحصول علي المياه والغذاء وفرص العمل وهربا من الجفاف' أما الرسالة فمفتوحة يقول منطوقها من داخلها، سوف تأتي مصر إلينا منحنية ومكسورة وصاغرة بعد أن يسقطها الجوع ويهلكها العطش، مشروع السد إذا كما قلت في السطور الأولي، عضو وظيفي مزروع في جسم الاستراتيجية الشاملة المضادة لمصر وللإقليم. *** ما العمل إذًا؟ لابد أن ندرك بعمق وفاعلية–أولا–أن السياسة الخارجية لأي بلد هي فائض قوته الداخلية، وإذا ظلت معاول الهدم والتفتيت والتجويع والاستحواذ الضيق الأفق علي مفاتيح العمل الوطني، فسوف تظل مصر بالضرورة تتحرك فوق هذا المنحدر الحاد إلي حيث الصدام والانفجار، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية–ثانيا–أن أمان مصر معلق بالأساس بقوتها الذاتية، وأن هذه القوة في تعبيرها الصحيح هي القوة العسكرية، بالدرجة الاولي، لا السياسية والدبلوماسية فقط، وأن القوة هي قوة النيران لا الدعاية، وقوة الاقتصاد لا الخطب المنبريّة، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية–ثالثا–بغض النظر عن موضوع اللجان والاجتماعات والبيانات، أننا نواجه تهديدا وجوديا شاملا متعدد الأبعاد والصور والاتجاهات، وأن ذلك لابد أن ينعكس علي صياغة استراتيجية وطنية متكاملة وشاملة، تحتوي كل هذه الأبعاد في جوانبها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية–رابعا–أن التوصيف الصحيح لمشروع سد النهضة، أنه يمثل تهديدا رأسيا للكيان الوطني، وهذا يعني التعامل معه بمنهجية الأمن القومي الشامل، أي أن الهدف الوطني في مواجهته ينبغي أن يوضع في إطار محدد: 'نفي التهديد' ومنهج نفي التهديد يتطلب أن تكون مساحة العمل السري أكبر بكثير من العمل العلني، علما بأن كلمة 'نفي' تعني الصعود علي درجات متتالية، تبدأ بالمواجهة ثم الاحتواء ثم الردع ثم التدمير، ولابد أن ندرك بعمق وفاعلية–خامسا–أننا نمتلك القدرة والقوة والعقل والخبرة والفرصة، ولكن مجموعها جميعها يساوي صفرا إذا لم نمتلك الإرادة. Email: [email protected] Site: ahmedezzeldin.com