تتواصل اليوم جولات التفاوض المصرية - السودانية - الإثيوبية حول سد النهضة، دون أن تظهر في الأفق أية بوادر إيجابية يمكن أن تدفع للوصول إلى حل عادل يرضى كلا من مصر والسودان، وذلك بعد جولات سابقة سعت فيها إثيوبيا إلى فرض سياسة الأمر الواقع. لقد ناقش مجلس الأمن القومي المصري برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي يوم الثلاثاء الماضي الموافق 9 يونيو الموقف الراهن، والدعوة التي تلقتها مصر من وزير الري السوداني باستئناف مفاوضات سد النهضة، حيث تم استعراض الموقف من كافة جوانبه والتأكيد على الآتي: - أن موافقة مصر على المشاركة في المفاوضات الجديدة تهدف إلى الوصول لاتفاق عادل ومتوازن يحقق مصالح الدول الثلاث: مصر والسودان وإثيوبيا. - أنه بالرغم من أن هذه الدعوة جاءت متأخرة بعد ثلاثة أسابيع من إطلاقها، إلا أن ذلك يحتم تحديد إطار زمني يحكم إجراء المفاوضات والانتهاء منها، حتى لا تصبح أداة للمماطلة والتنصل من الالتزامات الواردة بإعلان المبادئ الذي وقعته الدول الثلاث سنة 2015. - أن هذه الدعوة قد صدرت في ذات اليوم الذي أعادت فيه السلطات الإثيوبية التأكيد على اعتزامها السير قدما في ملء خزان سد النهضة دون التوصل إلى اتفاق!! - أن مشاركة مصر في هذه الاجتماعات تأتى تأكيدًا لحسن النوايا المصرية في هذا الصدد، ومن أجل استكشاف مدى توافر الإرادة السياسية لدى الحكومة الإثيوبية للتوصل إلى اتفاق لإنهاء الأزمة. وفى أعقاب الجولة الأولى للمفاوضات التي انطلقت في نفس اليوم عبر «الفيديو كونفرانس» جاء بيان وزارة الموارد المائية والري المصرية ليؤكد أن الاجتماع لم يحقق أية نتيجة تذكر، ولا يمكن وصفه بالإيجابية؛ لأنه ركز فقط على مسائل إجرائية ذات صلة بجدول الاجتماعات ومرجعه النقاش ودور المراقبين وعددهم دون أن يتطرق إلى المسائل الجوهرية المطلوب التوصل إلى نقاط اتفاق حولها. لقد أكد المفاوض المصري، منذ بداية انطلاق هذه الاجتماعات الجديدة، عددا من النقاط المهمة أبرزها: - مطالبة أثيوبيا بالتوقف عن المضي في إجراءاتها الأحادية لملء السد دون التفاوض والتوصل إلى اتفاق. - أن مرجعية التفاوض بين الأطراف المعنية يجب أن تستند إلى وثيقة 21 فبراير 2020، التي أعدتها الولاياتالمتحدة والبنك الدولي بناء على مناقشات الدول الثلاث. - أن فترة المفاوضات التي ستكون من 9 - 13 يونيو يجب أن تتوصل إلى اتفاق كامل بين الأطراف المعنية حول قواعد ملء السد والتشغيل. أما أثيوبيا التي عادت إلى سياسة المراوغة مجددًا وبدلا من طمأنة الموقفين المصري والسوداني أصدرت وزارة الري الإثيوبية بيانًا أعلنت فيها تمسكها بمواقفها السابقة، وأكدت أن المفاوضات ستبقى مستمرة دون الالتزام بموعد محدد، وراحت تبث دعاياتها الرخيصة موجهة اللوم إلى كل من مصر والسودان وتحميلهما مسئولية ما آلت إليه المفاوضات من توقف في فترة سابقة. وخلال الاجتماع الثالث الذي عقد يوم الخميس11 يونيو حاولت إثيوبيا فرض سياسة الأمر الواقع والتهرب من مسئوليتها مجددًا، وتقدمت بورقة إلى مائدة التفاوض مثلت تراجعًا كاملا عن المبادئ والقواعد التي سبق أن توافقت عليها الدول الثلاث في المفاوضات التي جرت بمشاركة ورعاية الولاياتالمتحدة والبنك الدولي، كما أنها أهدرت كافة التفاهمات الفنية التي تم التوصل إليها في جولات سابقة. - وفى هذا الاجتماع طالبت مصر بضرورة أن تمتنع إثيوبيا عن اتخاذ أية إجراءات أحادية بالمخالفة لالتزاماتها القانونية وخاصة أحكام اتفاق إعلان المبادئ المبرم بين الدول الثلاث في 2015 ولكنها لم تجد آذانًا إثيوبية صاغية. وكانت الجولة الرابعة التي انطلقت السبت الماضي هي الكاشفة للموقف الإثيوبي وعرقلته للمفاوضات بشكل كبير وقد حددت مصر موقفها على لسان السيد محمد السباعي المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية والري على الوجه التالي: - أن التعنت الأثيوبي مازال مستمرًا، وأنه ظهر بشكل واضح وفج خلال الاجتماعات الثلاثة التي عقدت لهذا الغرض. - أنه في الوقت الذي أبدت فيه مصر المزيد من المرونة، وقبلت بورقة توفيقية أعدتها جمهورية السودان الشقيق، تصلح لأن تكون أساسًا للتفاوض بين الدول الثلاث، فإن إثيوبيا تقدمت خلال الاجتماع الوزاري الذي عقد يوم الخميس 11 يونيو 2020 بمقترح مثير للقلق يتضمن رؤيتها لقواعد ملء وتشغيل السد وهو اقتراح مخل من الناحيتين القانونية والفنية. - أن هذا المقترح الذي رفضته كل من مصر والسودان يؤكد مجددًا أن إثيوبيا تفتقر للإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق عادل حول سد النهضة، ويكشف عن نيتها لإطلاق يدها في استغلال الموارد المائية العابرة للحدود دون أية ضوابط ودون الالتفات إلى حقوق ومصالح دول المصب التي تشاركها في هذه الموارد المائية الدولية. - أن الطرح الإثيوبي يتضمن أوجه عوار عديدة منها: - أن إثيوبيا تأمل أن يتم التوقيع على ورقة غير ملزمة تقوم بموجبها دولتا المصب بالتخلي عن حقوقهما المائية والاعتراف لإثيوبيا بحق غير مشروط في استخدام مياه النيل الأزرق بشكل أحادى وبملء وتشغيل سد النهضة وفقًا لرؤيتها المنفردة. - أن الطرح الإثيوبي يهدف إلى إهدار كافة الاتفاقات والتفاهمات التي توصلت إليها الدول الثلاث خلال المفاوضات الممتدة لما يقرب من عقد كامل بما فيها المفاوضات الأخيرة. - أن الورقة الإثيوبية تخل بكافة القواعد القانونية والفنية أيضًا، حيث أكدت حق إثيوبيا في تغيير وتعديل قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بشكل أحادى على ضوء معدلات توليد الكهرباء من السد ولتلبية احتياجاتها المائية دون الالتفات إلى مصالح دولتي المصب أو أخذها في الاعتبار. - أن الورقة الإثيوبية لا تقدم أية ضمانات تؤمّن دولتيْ المصب في فترات الجفاف والجفاف الممتد ولا توفر أي حماية لهما من الآثار والأضرار الجسيمة التي قد تترتب على ملء وتشغيل السد. - أن هذه الورقة الإثيوبية تمثل محاولة واضحة لفرض الأمر الواقع على دولتيْ المصب وجعلهما أسيرتين لإرادة إثيوبيا، أو أن تقبلا باتخاذ إجراءات أحادية كالبدء في ملء سد النهضة دون اتفاق معهما. وهكذا لم يكن أمام مصر سوى أن تعلن رفضها لهذه الورقة حيث أكدت أنها لا تعكس روح التعاون وحسن الجوار التي يتعين أن تسود العلاقات بين الأشقاء الأفارقة وبين الدول التي تتشارك في الموارد المائية الدولية. لقد عكست الجولات التي عقدت بين الدول الثلاث وبمشاركة دولية سوء نية الجانب الإثيوبي الذي رفض إضفاء الصيغة الإلزامية قانونًا على الاتفاق أو وضع آلية قانونية لفض النزاعات التي قد تنشب بين الدول الثلاث بالإضافة إلى رفضها التام للتعاطي مع النقاط الفنية المثارة من الجانب المصري بشأن إجراءات مواجهة الجفاف والجفاف الممتد. ويبدو أن إثيوبيا التي وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه أمام الرأي العام العالمي والأطراف المشاركة في المفاوضات راحت تبحث عن وسيلة لتصعيد الأزمة وزيادة حدة التوتر، إذ خرج علينا نائب رئيس هيئة الأركان في إثيوبيا ليهدد بإعلان الحرب ضد مصر ويتبجح قائلًا: إن مصر تعرف جيدًا، كيف يمكننا إدارة الحرب كلما جاء وقتها، وهى لغة تهدف إلى استفزاز مصر والتصعيد ضدها. وبعيدًا عن لغة التهديدات بالحرب التي تنطلق دون مراعاة لعلاقات حسن الجوار، فإن مصر لا تزال حتى الآن تراهن على الحلول السلمية والدبلوماسية للأزمة، غير أنها بالقطع سيكون لها ردها القوى الذي يحافظ على الأمن القومي المصري ضد أي اعتداء على حقوقها المائية، فهذه قضية حياة أو موت بالنسبة لنا، ولذلك تدخل مصر اليوم جولة جديدة من المفاوضات بالرغم من تعنت الموقف الإثيوبي، علّ العالم يكون شاهدًا على حقائق ما يجري.