في الدورة الأخيرة.. ال'85' لأفلام الأوسكار كانت هناك مفاجآت عديدة في فوز بعض أفلام دون غيرها، وفوز نجوم دون آخرين.. وهذا وارد بشدة في الفنون بوجه عام، لأن الفن وجهة نظر بالأساس وليس معادلة رياضية ثابتة وجامدة أي 1+1= 2.. علي أي حال.. كانت المفاجأة حقًا هي خروج زوجة الرئيس الأمريكي 'ميشيل أوباما' لتتحدث لأول مرة بصفتها السيدة الأولي 'عبر الفيديو كونفرانس' من البيت الأبيض إلي المسرح الكبير بهوليودد.. لتقدم الفيلم الحائز علي أوسكار أفضل فيلم 'أرجو'.. وهو يدور حول العملية السرية لحل أزمة الرهائن الأمريكان الشهيرة عام 1979 في إيران.. وهي تقوم علي تحرير 6 من الدبلوماسيين الأمريكان باستخدام طاقم من فناني هوليود!! والمسألة تحتمل وجهات نظر عديدة في كون السيدة الأمريكية الأولي تلعب دورًا أساسيًا في تدعيم سياسة زوجها.. وهي إذ تقوم كسيدة أولي ولأول مرة بتقديم فيلم حائز علي الأوسكار. فكان من الممكن أن يمر مرور الكرام، لكن كون الفيلم يتعرض لتلك المهمة، في هذا التوقيت الحرج، الذي يتبادل فيه البلدان 'أمريكا وإيران' الاتهامات وتشتعل الأزمة بينهما إلي حد التهديد باندلاع حرب كبري في المنطقة من أجل عيون أمن إسرائيل النووي!! ربما هذا ما دفع بعض المحللين ليعلنوا تسييس جوائز الأوسكار لهذا العام! لكن خروج 'ميشيل أوباما' لترحب بالأفلام، وهي تؤكد دور الفنون في رفع الروح المعنوية، وتوسيع أفق التفكير، ثم تأكيدها أهمية الفنون في تربية الشباب وفتح آفاق الخيال لكي يحلموا لبلدانهم أحلامًا كبيرة، ويكافحوا من أجل تحقيق هذه الأحلام.. لعل هذا الكلام، وهذه الرسالة تؤكد ما قلناه عشرات المرات عن أهمية القوي الناعمة، وجدواها ما في تغيير العاداتا المتردية، وفي إشاعة جو من البهجة وإلهام الشعوب الدروس الجادة لتغير واقعهم للأفضل. ومن هذه البوابة الواسعة والعميقة أقف أمام محتوي فيلم 'لينكولن' للمخرج اليهودي 'سبيلبرج' الذي حاز بطله 'دانيال دلويس' الإنجليزي علي جائزة أفضل ممثل وقد جسد الزعيم الأمريكي 'لينكولن' بإبداع يذكرنا بما فعله الفنان المصري العبقري 'أحمد زكي' رحمه الله في دوره للزعيم عبدالناصر في فيلم 'ناصر 56' من إخراج محمد فاضل. نعم هناك وشائج صلة بين الفنانين فكلاهما يدرب نفسه علي التفاعل مع الشخصية ليقدم روحها قبل أن يقتفي أثرها في الحركة والهمة واللمسة بل تقمص الشكل الذي يتطابق معها في النهاية، هكذا يتحدثون عن 'دانيال' في كونه استطاع باقتدار تمثيل روح الزعيم الأمريكي 'لينكولن' حيث أنه كان يطالب الطاقم الفني حوله أن يناديه 'سيدي الرئيس' حتي لا يخرج من أسر الشخصية!! وإذا كان نجاح فيلم 'ناصر 56' يرجع إلي اختياره فترة زمنية محددة، وهي فترة تأميم قناة السويس والإعداد لهذا العمل الضخم الذي هز العالم وغير صورة ناصر في الداخل والخارج معًا.. فإن فيلم 'لينكولن' اختار العام الأخير من حياة الزعيم '1809- 1865'.. وهي السنة التي شهدت ذروة الأحداث والمأساة الدامية في الحرب الأهلية الأمريكية والتي استمرت '4' سنوات.. وقد توجها وأنهاها 'لينكولن' بصدور قانون يلغي العبودية ويساوي بين الأمريكان والمتضمن المادة 13 من الدستور. منذ بداية الفيلم ونحن نشاهد خطة درامية فاصلة في مجتمع نصفه من العبيد، والنصف الآخر من الأحرار.. وهو يحتاج لإدارة سياسية ومركزية جبارة تلحم الشقين الاثنين بقوة القانون، لا قانون القوة الذي ثبت فشله!! هكذا فكر وكابد واستقر 'لينكولن'.. فإما أن يعبر المجتمع، ويلتحم شماله مع جنوبه حتي لو ضحي بنفسه فداء هذا الحلم الكبير!! وإما أن يتفتت ويصير شظايا تذروها الرياح، ويعبث بها العنف والعنصرية وأصحاب المصالح الذاتية والخاصة! 'إبراهام لينكولن' جاء في التوقيت المناسب، وفي المكان الذي يحتاج لزعيم في قوة إرادته وصلابة معتقداته.. زعيم يؤمن بالعدل والمساواة بين البشر في مجتمع يؤثم هذه الأفكار والمعتقدات.. وفي مشهد غاية في الإنسانية يسأل لكنه لينكولن شابين من المهندسين عن رأيهما في الحرب القائمة وكيفية الخروج منها.. يتلعثمان لكنه يجاوب نيابة عنهما بشكل أبوي ودود.. إن قاعدة 'إقليدس' في الهندسة تؤكد أن النظائر المتكافئة متساوية.. فالأساس في الأشياء والبشر هو المساواة.. والعدل هو ناموس البشرية.. إنه يؤكد هذه المعاني ويتمسك بها بل ويدفع إلي معركة دستورية داخل قاعة البرلمان من أجلها.. لا غرابة في أن نشاهد ذاك البرلمان وكأننا نشاهد برلمانات اليوم! في إذعانها لدعوات التطرف والعنف، ودعوات التخلف والرجعية وبخاصة ضد المرأة.. الأمر الذي جعل قاعة العرض السينمائي تضج بالضحك.. لكنه في الحقيقة ضحك كالبكاء علي حالنا!! إن الحرب الأهلية في أمريكا علي امتداد '4 سنوات' التهمت 600 ألف مواطن، الاقتصاد الأمريكي صار 'صفرًا' ولايات الجنوب تتمسك بالانفصال وترفض تحرير العبيد لأنهم يستغلونهم في الزراعة بينما الشمال الصناعي يدافع عن القانون.. إن المعركة القانونية والدستورية الذي أدارها لينكولن لكي يخرج قانون تحرير العبيد إلي النور.. تكشف لنا عن قدرة فذة لإدارة دفة السياسة وعلي استخراج هذا البلد من مستنقع الحروب الأهلية إلي شاطئ الحرية والسلم الاجتماعي.. ولا يفوتني في ذلك مشهد مؤثر للشاب 'ابن لينكولن' عندما شاهد أكوام العظام من السيقان والأقدام البشرية ما كان منه إلا أن أصر علي التطوع والذهاب للحرب! إن لينكولن قفز، قفزة نوعية تصالحية كبري.. أخرج بها القانون إلي النور ودفع هو حياته ثمنًا لها.. لكنه تحول إلي رمز تاريخي يشار إليه بالبنان ليس في بلده فقط وإنما في العالم بأسره.. نعم إذا كنا نقول بأن 'سبارتكوس' أول زعيم قام بثورة لتحرير العبيد قبل الميلاد.. فإن لينكولن هو أول زعيم في العصر الحديث قام بسن القوانين لإلغاء العبيد وتحريرهم في أمريكا!! إن فيلم 'لينكولن' يلقي بظلاله عما نحن فيه من فتن وتمزيق وتحارب في ظل من أسموه وصدروه لنا تحت اسم الربيع العربي، ورغم أن 'لينكولن' صنع الربيع الأمريكي منذ قرن ونصف القرن إلا أن ربيعنا لا يزال يبحث عن 'لينكولن' آخر يدفع بالأمة إلي عتبات جادة وحقيقية للتصالح والتوافق والاستيقاظ!! ملحوظة أخيرة: 'لينكولن' سبيلبرج بصبغة هذا المخرج بصبغة يهودية الهوي تؤكد انتماءه وانحيازه عندما يعلن عن لسان لينكولن وقبل موته بأنه بأنه يحلم بزيارة دولة داوود وسليمان.. أما 'لينكولن' العرب فلابد أن ينحاز انحيازًا عربيًا وطنيًا مستقلاً خالصًا وبامتياز.