لا تقرأ السطور القادمة لأنها ثقيلة تمس القلب في زمن سيطرة المادية والرأسمالية capitalism ,material .فأصبحنا نلهث وراء لقمة العيش , حتي إذا وفرناها أصبحت لا ترضينا لنبحث عما هو أبعد من ذلك , وهكذا لم نعد نقنع بما نملكه, بل قد يخلف ذلك دائمًا مسحة من الإحباط, وليس بالقليل من المشكلات الناجمة عن سوء النفسية, والإحساس الكاذب بقصر ذات اليد. بل أصبحت تنأي بنفسك عن الناس تواري وجهك في الثري, لعل يكن بهم طالب لحاجة ,فلم تلبه وأنت المحتاج دوما, نهمك لا يقنع، وجوعك لا يشبع ,فتحدثك نفسك لا تستمع لصديق فلا يوجد في هذا الزمان صديق تأمنه , ولا تجل الآخر فالآخر دائمًا له وجه آخر, فأصبح الشك هو اليقين, و وساوس النفس دليل قاطع, وصوت عبقري لابد أن يلبي , ما هذا العالم الذي يعيشنا ولم نعيشه, فأصبحنا منعزلين متخوفين ومخونين. دنا فلاح كبير السن يشكو سوء الأحوال, وارتفاع الأسعار, وركود البضاعة، وشح المال, فيخبط كفا علي كف، وهو يتأمل ما تلف منها, فهو يتمتم مستطردًا, تنهمر دموعه علي وجنتيه: لقد كان الخير الوفير يعم الديار, سنين طويلة مضت والحال مازال في انحدار . لماذا أساسًا نستخدم النقود؟ هل يذكرني أحدكم ؟ نعم تذكرت كان الناس في العصور القديمة يقايضون احتياجاتهم 'نظام المقايضة' أي مبادلة شيء بآخر، فمن يملك شيئًا لا يحتاجه فيبادل جزءًا من إنتاجه مقابل السلع التي ينتجها الآخرون من أي نوع, أي دون أن تدخل النقود وسيطًا في عملية التبادل . إلا أنه لم تظهر الحاجة للنقود, خلال تلك العصور, إذن لم تكن النقود هي الغاية في حد ذاتها , إنما هي وسيلة فقط بعد أن تنوعت حاجات الإنسان، صارت الحاجة لصك العملة ثم في مرحلة لاحقة البنكنوت . إذن لماذا هذه الصرعة علي المال؟ هل أصبح هو الغاية والمراد ؟ حين تسأل أي شخص: ماذا تريد ؟ يباغتك برد حفظه عن ظهر قلب: الستر, فعلا، أريد منكم جميعا أن تمكثوا مع أنفسكم مليًا, وان تعيدوا حساباتكم، ماذا تريد من الحياة المال ,الجاه ,المنصب ,النفوذ, بما سوف يخدم ؟ هل هو قيمة في ذاته ؟ أي أثر سوف تخلفه من ورائك , أي إرث سوف يرثه أجيال من بعدك, فلتغمض عينيك؟ هل أنت سعيد, إذن توكل علي الله وأتم سعيك, وإن كان غير ذلك , فلتتوقف ولا تساير القطيع , فهذا اللهث وراء المال وجمعه لا يروي كشرب ماء البحر لن يزيد إلا ظمًأ. أصبح المال مقصلة تطيح برقابنا وبضمائرنا في الوصول إليه , أصبحنا ببغاوات نردد عبارات رنانة شعارات واهية لتكون هي المسكن لألم الضمير , إن السعي في مناكب الحياة سلب كل قيمة إنسانية , أصبحت لغة المصالح هي السائدة فتجد نفسك محاطا بأشخاص لا ترغب في مؤانستهم سوي أن حاجتك تلح عليك, بل لقد توغل المال ليصل إلي حد أن يكون ذريعة للمصاهرة بين العائلات , فخربت البيوت , وانهارت الأسر, وتشرد الأبناء, وحين يجلسون ليتباحثوا يغضون الطرف عن السبب الحقيقي وراء الانهيار. بل ليمض قطار المال في زيجاته ليصل إلي زواج السلطة , والذي نعلم جليا ما آل إليه من انهيار وطن بأكمله , وفساد بكل أنظمة الدولة . والنهاية التي وصل إليها من كنا نظنهم رموزا للدولة , فإذا بهم حفنة من اللصوص , فيكفي أنهم سرقوا قوت يومنا, بل سرقوا أيضًا غدنا , وأفسدوا علي المواطنين حياتهم , فساروا في ثرائهم يتوحشون, غير مبالين بآلام الكادحين, سرقوا المنطق والفكر والمستقبل , فتلوثت أموالهم بدماء المصريين . من وقت ليس ببعيد كنت أري الجارة وهي تحمل صحن الحلوي مغطي بالحب , ويظل هذا الصحن يطوف من منزل إلي منزل طوال العام في متوالية غير حسابية ليرتبط الجيران بمعين من الود والحميمية، الآن لا نعرف بعض نتحاشي الاقتراب , حين تنظر في عين غريب تجد التحفز, بالرغم من أنه لا يعرفك ليبادر بمثل هذا العدوان. لكن أين الحل في هذه الدائرة المفرغة ؟ علينا أن نبدأ بأنفسنا, لقد تغير الحال، فلم لا نتغير. لقد تجرعنا كأس العزلة والتخوين لسنوات, علينا أن نمد جسورًا من العلاقات الإنسانية الحقيقية. لقد غير المال من مفاهيمنا عن إدراك السعادة الحقيقية من حولنا , وها نحن الآن علي مشارف أزمة اقتصادية , علنا نتخذ منها دافعًا لإعادة التصبغ بصبغة الماضي الجميل, ورأب الصدع الذي أصاب علاقتنا الاجتماعية . ولنعلم جيدًا أن توغل المال في حياتنا قد يطيح بنعم أخري وقد يكون علينا في مقابله دفع ضريبة باهظة من عافيتنا وراحتنا . أهذا هو التحضر الذي وصلنا إليه؟ أهذا هو ما كان ينشده لنا آباؤنا وأجدادنا من عاشوا بساطة الحياة و رغداء النفس؟ أتراهم يتقلبون في قبورهم مغتبطين , أم أنهم ينتظرون وصولنا إليهم في قبورهم ليقرعونا بنعالهم؟ الأرض تشعر وتجود علي ذي الجيد, فإن أمسكتم أمسكت ومنعت الخير تصيب في ذلك الصالح والطالح علي حد سواء.