لم يكن عيد العمال بفرنسا هذا العام كسابق عهده حيث كانت مظاهر الاحتفال مقصورة على التهانى والبهجة وبيع وتهادى زهرة الميجى وبسبب ما كانت تشهده فرنسا ومدنها من خروج مظاهرات عمالية ونقابية هادئة للتعبير عن مطالبها الاجتماعية المشروعة، بل شهد الاحتفال بعيد العمال هذا العام 2019 خروج مظاهر احتجاجات ومسيرات شعبوية غاضبة وعاصفة بباريس وغالبية المدن الفرنسية بسبب الغلاء والبطالة والفقر وتردى الأوضاع الاجتماعية فى ظل الإصلاحات التى يقوم بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وبما لا يتماشى ويتوافق مع الأوضاع الاجتماعية لغالبية الفرنسيين، وبسبب تأثير تلك الإصلاحات الصارمة على أحوالهم المعيشية المتراجعة، ولهذا فقد خرجت المظاهرات الدموية الغاضبة لتشمل حركة السترات الصفراء وحركة البلاك بلوك من الناشطين المناهضين للرأسمالية والمعادين للفاشية، مع وجود كبير لأصحاب النقابات العمالية للتعبير عن سخطهم ورفضهم لما تضمنه خطاب الرئيس ماكرون الأخير والمتعلق بمعالجة الأوضاع الاجتماعية والعمالية وأصحاب المعاشات والطبقات الفقيرة واقتراحات ماكرون حول إجراء تخفيضات ضريبية تبلغ قيمتها نحو أكثر من خمسة مليارات يورو، وقد شهدت العاصمة الفرنسية الأربعاء الماضى وكما كان متوقعًا من قبل السلطات الأمنية مواجهات وصدامات بين رجال الأمن والمتظاهرين الذين خرجوا فى مسيرات عيد العمال تلبية لدعوات النقابات الوطنية بقيادة الكونفدرالية العامة للعمل سى جى تى، وحركة السترات الصفراء؛ حيث استخدمت قوات الأمن خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع لتفريق المحتجين بعد تعرض الكثير من المحال تجارية والشركات وبعض البنوك وأحد المستشفيات للنهب والتخريب، ووفقًا لإعلان وزارة الداخلية فقد بلغ عدد المتظاهرين بفرنسا لأكثر من ثلاثمائة ألف متظاهر واعتقال أكثر من مائتى شخص ووقوع العديد من الإصابات بين المحتجين ورجال الأمن، وتمكن القوات الأمن الفرنسية برغم تفاقم الأحداث من السيطرة على الأوضاع ومنعها من الانزلاقات الأمنية. وبرغم هذا اليوم العنيف والطويل الذى شهدته فرنسا تمكن كل من الرئيس ماكرون ووزير داخليته كريستوف كاستانير من تنفس الصعداء لمرور هذا اليوم العاصف بعد القلق الذى كان مرتقبًا من قبل السلطات ومتخذى القرار الأمنى بخصوص مواجهة العنف الذى كان متوقعًا من ناشطى الاحتجاجات وما خرج من تهديدات بشأن تحويل باريس خلال هذا اليوم إلى مسرح خراب ودمار لتكون رسالة تهديدية للرئيس ماكرون، صحيح أن وزير الداخلية الفرنسية كريستوف كاستانير- وكما يرى الخبراء والمحللون السياسيون- قد استطاع أن يخرج من عنق الزجاجة لسيطرته على الأحداث بعد إخفاقاته المتعددة مع حركة السترات الصفراء والتى جعلته مهددا بفقدان منصبه، إلا أن مستقبل الرئيس ماكرون نفسه يبقى مهددا بسبب تواصل الاحتجاجات من جانب حركة السترات الصفراء المستمرة وغيرها من النقابات والحركات الأخرى وعن عدم تكملة فترته الرئاسية وخططه الإصلاحية بأريحية، وهنالك أيضًا من يرى فى استمرار هذه الأوضاع المتشنجة على مدى أسابيع طويلة تؤشر فى حد ذاتها على فشل الرئيس ماكرون فى إيجاد الحلول الاجتماعية والاقتصادية لنزع فتيل هذه الأزمة خصوصا بعد انتهاء جولات الحوار الوطنى الأخيرة التى كانت من المفترض أن تعبِّد الطريق نحو الخروج من الأزمة وتخفيف حدة التشنج الاجتماعى. وسوف تلقى التظاهرات المرتقبة المقبلة وتداعياتها الأمنية بفرنسا بظلالها على طريقة أداء الرئيس ماكرون وعلى تحديد مصيره وحظوظه كرئيس استطاع أن يمرر إصلاحات بنيوية قاسية وفق رؤاه لاقتصاد فرنسى فى أمس الحاجة للنمو، فهل سيتمكن ماكرون من تغيير نهجه والانصياع لمطالب الحركات والطبقات الاجتماعية والعمالية الفقيرة الغاضبة، أم سيظل على مواصلة نهجه الصارم الذى ووفقا لآراء المحللين سيجعله يفقد مستقبله فى الحكم لولاية رئاسية ثانية وعندها تبقى الكلمة الأقوى وفقا لتاريخ فرنسا للشعب وحده؟!