فى قلب الاسكندرية ، بأحد شوارعها العريقة الناطقة بجمالها، تجد عن يمينك مدخلا، تمر منه ليستقبلك نوبار باشا – أول رئيس وزراء مصرى – وهو جالس فى عظمة وشموخ بتمثاله المصنوع من البرونز فوق قاعدته الرخامية الفاخرة، وتتسمر قدماك رافضة التقدم وتسمح لعينيك بتأمل الطراز المعمارى الايطالى المميز الذى تزينه مجموعة زخارف كلاسيكية مما كانت سائدة فى عصر النهضة الأوروبية ببداية القرن العشرين، وحينما ترفع رأسك ترى (فرنتونة) أو تاج الواجهة ومكتوب اسم تياترو محمد على !! وتسأل، ليحكى لك أن هذا المسرح قد شيد عام 1918على أطلال مسرح خشبى (مسرح زيزينيا وسمى بذلك لأن صاحبه كان مقيما بمنطقة زيزينيا) ، حينما كلف آل قرداحى – عائلة لبنانية من أثرياء الاسكندرية فى ذلك الوقت - المصمم الفرنسى جورج بارك ببنائه، والذى بدوره استوحى التصميم من أوبرا فيينا بالنمسا ومسرح اوديون فى باريس بفرنسا، وتم افتتاحه عام 1921 حاملا هذا الاسم الذى مازال مدونا على الواجهة، وفى عام 2001 قرر الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة حينئذ ضمه إلى دار الأوبرا المصرية، وافتتحه فخامة الرئيس مبارك وقرينته عام 2004، ليحمل منذ ذلك اليوم اسم أوبرا الاسكندرية، ويكتب التاريخ فصلا جديدا فى حياة عروس البحر المتوسط، منارة الفن والثقافة. وتواصل التأمل لتطالعك من فوق الأعمدة أربعة وجوه، وجهان ضاحكان والآخران باكيان، وربما تساءلت عن مغزاها، ليجيبك بأنها ترمز إلى التعبيرات التمثيلية المستخدمة قديما بالمسارح الاغريقية شاسعة الاتساع، حيث كان يصعب على الجمهور رؤية تعبيرات وجه الممثل لبعد المسافة الناتج عن مساحة المسرح الهائلة ولهذا لجأ الممثلون لارتداء أقنعة باسمة أو عابسة لتوضح حالتى الفرح (الكوميديا) أوالحزن (التراجيديا) !! ثم يدعوك إلى الدخول لهذا المبنى الأثرى معتذرا عن عدم مرافقتك للداخل لانشغاله باستقبال باقى الضيوف، لكنك ستجد آخرين فى استقبالك، بمجرد اجتيازك للباب الرئيسى معتقدا أنك قد وصلت إلى أوج الانبهار، ستفاجأ أن الداخل يحمل لك المزيد والمزيد، فالجمهور يتسم بمظهر أنيق متميز بسبب احترام القواعد والتقاليد الأوبرالية العريقة بشأن ضرورة الالتزام بالملابس الرسمية لحضور الحفلات، مما يجعلك تشعر وكأنك قد انتقلت إلى زمن الرقى الجميل، وفور الدخول للبهو الرئيسى يقابلك عن يمينك فنان الشعب سيد درويش الذى سمى المسرح باسمه تخليدا لذكراه واعترافا بدوره فى عالم الموسيقى، ويستمر الابهار المعمارى بمزيد من النقوش والزخارف الادمية والنباتية والهندسية مع زخارف الآلات الموسيقية ذات الأصول الاوروبية والبيزنطية الرومانية واليونانية والفاطمية الاسلامية، وسرعان ما تسمع دقات المسرح استعدادا لبدء الحفل، وداخل صالة المسرح لابد وأن يلفت نظرك القبة الدائرية التى تتوسط السقف، وتحمل أسماء أشهر الموسيقيين فى العالم مثل موتسارت، فيردى، فاجنر، روسيني، جلوك .......الخ ويرفع الستار، وتبدأ ليلة من الليالى التى يؤرخ بها العمر، ويطل الفنان هانى شاكر، الذى يقف القلم عاجزا عن وصف ما يمنحه لجمهوره من سعادة، لن أصف مدى تجاوب جمهور الاوبرا الراقى معه، مع صوته واحساسه وأغنياته الحزينة قبل المرحة، والقديمة قبل الحديثة. هاني شاكر حالة فنية مختلفة، لا تراه إلا بشوشا مبتسما مهذبا خلوقا متواضعا مجاملا للجميع ، واحساسه يسلك طريقا لا مرئيا متسللا ليسكن قلوب جماهيره !! إنها حالة ال هانى شاكر - كما أسميها - التى تسيطر على وجدان الجمهور ومشاعره، وتجعله يحلق عاليا إلى آفاق خارج حدود المكان والزمان، بعيدا عن حالة التلوث السمعى بكل مفرداتها السوقية الغريبة وضوضائها التى يدعى صناعها والمتابعون لها كذبا أو جهلا أنها موسيقى !! هانى شاكر الذى يضفى بوجوده وابداعه فرحة على قلوب محبيه كأنه بهجة مشعة تنتشر وتتوغل فى نفوس الجمهور لتجعله منتشيا سعيدا !! انها حالة ال هانى شاكر التى تمنح الجمهور جرعة من التفاؤل تستمر لأيام بعد الحفل، وجوده يضفى على جمهوره بهجة، ومما يزيد الأمر روعة ان تكون هذه الحالة على مسرح من مسارح الاوبرا، قلعة الفن الراقى وآخر حصونه، إنها سيمفونية متناغمة يندر وجودها، أصالة المكان تحمل عبق الماضى وكل رونقه لتشكل نغمة تتجانس مع الصوت الشجى والاحساس الطاغى والابداع الحقيقي لتخلق لدى الجمهور حالة شعورية يصعب وصفها لكنها تلقى بظلالها على وجوه الحاضرين، وتنعكس على سلوكياتهم وتعاملاتهم خلال الحفل فتجعلهم أكثر رقيا وتحضرا وتذوقا للفن الجميل، وكم نحن فى حاجة إلى مثل هذه الليالى الفنية للارتقاء بالذوق العام والتغلب على ملامح الابتذال والاسفاف والتدنى التى كادت أن تسود المجتمع. انها ليلة لهانى شاكر فى أوبرا الاسكندرية ، قلعة الفن بالثغر.