بالصدفة أثناء تصفحى لأحد المواقع شاهدت صورة تجمع بين كل من إحسان عبد القدوس ، نجيب محفوظ ، توفيق الحكيم ، ويوسف أدريس ، أستغرقتنى لحظة تأمل ، أربعة من عمالقة عالم الأدب والثقافة فى صورة واحدة ، وتخيلت تلك الفترة من تاريخ مصر ، هل حقا كانت مصر تزخر بكل هؤلاء المبدعين !! وتذكرت ما يحكيه والدى أنه رأى كل منهم - على حدة - خلال جلساته المعتادة فى تريانون ، وأن زيارات المشاهير للاسكندرية كانت أمرا متكررا ، وعندما سألته عن رد فعل الناس حينما يتواجد أحد هؤلاء المشاهير ، أجابه أن البعض كان يذهب للسلام يدا بيد ، والغالبية مثله تكتفى بإلقاء التحية بهزة رأس وابتسامة من بعيد - والدى من ذلك الجيل الذى نشأ على احترام الحياة الخاصة للآخرين وعدم اقتحامها - وعندما أبديت دهشتى ضحك قائلا أن (جنون التصوير وسيلفى مع المشاهير لم يكن قد ظهر بعد) ، الكاميرات فى ذلك الوقت لم تكن متاحة للجميع ، وبالطبع لم يكن (الموبايل) قد اخترع بكاميرته المقتحمة لخصوصيات الناس ، والأهم من كل هذا أن أفراد المجتمع كان لديهم ثوابت أخلاقية تمنعهم من اختراق حياة الاخرين ، وبالتالى كان المشاهير يستطيعون ارتياد المطاعم والمقاهى بلا ازعاج وبلا تجمهر حولهم من الجمهور ، وإن كان الأمر يختلف قليلا لو تعلق الأمر بأحد نجوم السينما. تذكرت كل هذا وأنا أفكر فى تاريخ مصر الزاخر برموز الثقافة من الادباء والكتاب والشعراء مثل العقاد ، السباعى ، حقى ، طه حسين ، السحار، باكاثير ، ثروت اباظة ، عبد الحليم عبد الله ، القعيد ، هيكل ، انيس منصور، موسى صبرى ، مصطفى أمين ، جاذبية صدقى ، حسن شاه ، سكينة فؤاد ، عبد الوهاب مطاوع ، شوقى ، حافظ ، رامى ، جاهين ، حداد ، الأبنودى ... وغيرهم !! فلا عجب أن خلال تلك الحقبة التى شهدت تواجدهم كان المجتمع يتسم بالرقى والإحترام ، فهذه الرموز الأدبية هى التى أهتم الإعلام بابرازها وتقديمها للمجتمع كنماذج ثقافية يحتذى بها ، فأثرت فى أفكار وسلوكيات المواطن ، وجعلت من الرقى نبراسا. وبرحيل بعضهم واعتكاف البعض الآخر تدهورت أحوال الثقافة حتى كادت تندثر ، والسؤال الذى يطرح نفسه هل لدينا الآن رموز ثقافية مؤثرة فى المجتمع المصرى والعربى باستثناء نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق ؟! وقادنى هذا التأمل بالطبع للتفكير فيما حدث خلال الأسبوع المنصرم ، والتضاد الواضح بين طوفان مشاعر قراء العراب الدكتور أحمد خالد توفيق حزنا على رحيله ، وهيستيريا الإعلام فى البحث عن أسباب ذلك !! هذا التضاد الذى أشار بوضوح إلى الفجوة المجتمعية بين وسائل الاعلام الجماهيرى والجمهور !! تلك الوسائل المنوط بها القيام بدورها فى تشكيل اراء وثقافة أفراد المجتمع بتقديم معلومات صحيحة دقيقة فى إطار من المصداقية والوضوح لتوعية الجمهور ومساعدته على تكوين رأى بشان القضايا المختلفة ، فضلا عن اتاحة الفرصة له للتعبير عن آرائه ، فالاعلام فى ظل التطور التكنولوجى السريع لم يعد فى امكانه الاعتماد على مبدأ وسريان المعلومات باتجاه واحد من المصدر إلى المتلقى ، وانما ينبغى الاعتراف بضرورة الاعلام التفاعلى ، حيث تتدفق الرسائل الاعلامية فى اتجاهين كفعل ورد فعل ، وإلا انصرف الجمهور عنها ، واتجه لإيجاد وسائل اعلامية بديلة. وهذا هو الواقع الحالى ، لقد انصرف الجمهور - خاصة الطبقات الأكثر تعليما ووعيا وثقافة - عن وسائل الإعلام المعتادة ، وخلق لنفسه وسائله الاعلامية ، وساعده على ذلك التطور الهائل فى وسائل التواصل الاجتماعى (السوشيال ميديا) ، والتى أصبحت اعلاما بديلا وسريعا – رغم ما يشوبها من عيوب – ومؤثرا فى كثير من الأحيان ، والأدلة كثيرة على مدى تأثير (السوشيال ميديا) ، فكم من قضايا مجتمعية تم تسليط الضوء عليها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي قبل ان تلتقطها وسائل الإعلام التقليدية من قنوات تلفزيونية وصحف لتناولها ومناقشتها !! وما حدث مؤخرا هو دليل شديد الوضوح عن جهل الاعلام وغيابه وبعده عن الجماهير ، وانفصاله عن الحياة الثقافية الحقيقية فى مصر ، فمن يحاسب الاعلام عن تجاهل رموز ثقافية مبدعة ومؤثرة ؟! إنها صفعة على وجه الاعلام المصرى ، تخبره بكل صراحة أن رموزه الثقافية التى يقدمها عبر بثه طوال ساعات اليوم وعلى مدار الأسبوع – إن كان يقدمها بالفعل – هى رموز خيالية هشة لا تمت للواقع بصلة ، يحاول فرضها وتكوين صورة ذهنية لدى المشاهد – الاقل وعيا – توحى أنها حقيقية ، فمازال الاعلام يعتمد على قوته التأثيرية فى مجتمع به نسبة كبيرة من الأمية لكنه تناسى أن تأثير الافراد على بعضهم البعض أكثر سهولة وخاصة فى ظل التكنولوجيا الحديثة ، وأن المواطن العادى قد أصبح لديه خيارات متعددة لتكوين قناعاته وآرائه ومعتقداته .. وكل هذه الأشياء التى تتجمع فى النهاية مكونة ما يسمى ب ثقافة الفرد. لقد فقد الاعلام المصرى مصداقيته إلا القليل الذى مازال محتفظا بحد أدنى من الحيادية والموضوعية والصدق ، فمتى يفيق الإعلام ، ويدرك أن زمن تزييف الحقائق وإيهام المواطن بها قد ولى ؟! ولم يعد فى الإمكان خداع الجمهور بحقائق مشوهة أو ناقصة لأنه سرعان ما سيكتشف ذلك ويفقد ثقته فى الإعلام ورموزه ورسائله ، ويتحول الإعلام من قوة تأثيرية فى المجتمع إلى هيكل وهمى لا نفع منه !!