تكريم جمال عبدالناصرلثابت مبارك حسين من منا لم تبكه كلمات حراجى القط للخال عبد الرحمن الأبنودى الذى روى فيه معاناة ومأسى يوميات عمال الترحيل من محافظة قنا الذين عملوا فى بناء السد العالى بأسوان، مضت أعوام ورحل من رحل وعاش الكثيرون الذى غطتهم رمال العهود السابقة، بعد أن نالٍ البعض منهم التكريم واكتفى البعض الآخر برؤية رئيس القلوب «جمال عبد الناصر»، وحفر الكثير منهم مشاهد رؤيته وهو يرتدى القفاز والكاذيلاك ويخوض فى الطين وسط العمال فقط من أجل يقبل رأس عامل ويمسح جبينه ويطيب خاطره، ويشجعه ويحمله على كتفه بيده روح العمل من أجل مصر. «الأسبوع» التقت بعم ثابت مبارك حسين أحد بناة السد العالى من محافظة قنا والملقب بين اهله واقاربه بحراجى القط احد ابطال قصائد الخال عبد الرحمن الأبنودى ليروى لنا ولاول مرة مشاهد بناء السد العالى، وشعوره برؤية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكذلك قصة ترحيله من الخدمة العسكرية إلى مدرسة السد العالى ومنها إلى ارض الواقع للعمل من اجل لقمة العيش. من أمام منزله المرصوص بالطوب اللبن يجلس هذا الرجل العجور على كرسى خشبى وقد حفرت ملامحه احزان السنين يرتدى جلبابا ويتكأ على عصا. بدأت ساعات الرحيل إلى جبال اسوان، ومضت الأيام وعرت الرياح رؤوسنا لتتطاير معها كل ما فى القلوب، وتقتلع معها كل المشاعر وتأتى فصول السنة باكية ولا رفيق سوى أحلام تتصاعد إلى السماء تهمس فى أذن الكواكب لتنخفض إلى القلوب لتحضنها كهوف الجبال التى لا يوجد بها عنوان. بتلك الكلمات بدأ عم ثابت البالغ من العمرة 75 عامًا يروى ذكرياته فى أول أيام حراجى القط على أرض السد العالى، حيث الليلة الأولى التى وصل فيها وترك الأهل والأصدقاء والأحباب وكان وقتها ملحقًا بالخدمة العسكرية وطلب منه وقتها الانضمام إلى كتيبة العمل بالسد العالى. واستطرد قائلًا: فى الليلة الأولى انزوعت كل أحلامى وغادرت البسمة وجهى وبدأت العمل وسط الجبال الخرساء التى لم تسمعنا صوتها إلا وقت هبوب الرياح قائلًا: «أول يوم نزلت فيه إلى العمل كان من أصعب الأيام ووقتها عرفت أن لا قيمة للحياة بدون عمل، وهذا المشروع سوف يخدم أجيالاً قادمة وأحلامى سوف تحقق ولكن بعد تحقيق حلمنا الأكبر فى بناء السد العالى، وكنت وقتها ابن العشرين عامًا تقريبًا وأتذكر عامى الأول وتحديدًا عام 1962 وشعرت بالحياة من جديد فى وسط الرمال الصفراء التى يعيش وسط جنباتها ما لا يتخيله عقل من ثعابين وعقارب وغيرها من الحشرات السامة والضارة للإنسان، وحشة الليل التى تذكرنا دائمًا بالاهل والاصدقاء والاحباب، والحنين إلى العودة، كل هذا لم يغلبنا. وأردف قائلًا: رؤية الرئيس جمال عبد الناصر تنسينا اى شىء، والسلام علينا كأننا كنا نحتضن اهالينا، وعيناه كانت دواء لروحنا من كل العلل، لم يكن يومًا رئيس جمهورية بل كان مواطنًا يحمل كل معانى المواطنة، وخلال عملى فى بناء السد العالى شاهدت هذا الرجل أكثر من رؤيتنا لاهلنا، وفى المناسبات كان يحضر معنا». ويصف عم ثابت فى رواياته مشاهد الموت لبناء السد العالى خلال عمله هناك قائلًا: «كنت أشاهد الموتى والمصابين فى الأنفاق ولم يكن بوسعى وقتها سوى أن احملهم لوضعهم فى اماكن اعلى الجبل حتى يعرفهم من كان مكلفين بحمل الجثث والمصابين إلى المستشفيات الميدانية وبعدها يتم التعامل معهم، من مات يتم وضعه فى صندوق يحمل رقمًا ويرسل إلى اهله والمريض يتم علاجه حتى الشفاء والعودة إلى العمل مرة أخرى». وتابع: أنه كان يبكى سرًا فى قلبه على فراق صديق الخيمة ورفيق الكفاح ولكن دموعه تظل حبيسة عيونه حتى لا يضعف وتقهرها تلك المشاهد المؤلمة وتجعله يفكر فى الرحيل وينسى تحقيق حلم مصر الأكبر، وعندما كنا نحقق انجاز ويقترب الحلم من ارض الواقع ننسى كل الاحزان والتعب. وعن أصعب الأوقات التى مر بها عم ثابت قال إنها كانت عندما يتم تفجير الجبل بالديناميت ويشعر كل منا أن الموت ينتظره فيذهب يستظل بحجر كبير أو يختبأ فى كهف تملاؤه العقارب والثعابين، ونرتمى فى احضان الموت بحثًا عنه كى نعود إلى أهالينا فى صناديق مغلقة بأجساد كاملة، ولكن فى لحظات الانفجار كنا نرى مشاهد مرعبة جثثًا ممزقة ومشوهة واجزاء تحتضنها احجار الجبل فهى ترق لها عن قلوب البشر، كانت البداية النهاية معًا، يولد حلم وتموت معه عشرات الاجساد، من اجل حياة الملايين. مشيرا إلى أن هناك بعض الالغام لا تنفجر فى وقتها ويظن العمال انها لن تنفجر وعند نزول الورديات للاسف تنفجر بعض الالغام، وهو ما خلف العديد من الضحايا ما بين جراحى وقتلى، وبالرغم من مشاهدتنا لعشرات الجثث والضحايا لم نهب الموت مطلقًا فنحن فى النهاية سنموت مهما اختلفت وسيلة الحياة والموت. وأستطرد قائلًا: «إن حلم الذى ظل يراوده ليس الزواج والعمل وانما رؤية نقطة المياه وهى تجرى فى الجبل وينشأ السد العالى حلم الملايين من أبناء هذا الوطن، ورغم كل المشاهد الصعبة التى عشناها الا أنها حفرت بذاكرتنا حتى صار البعض منا يتذكرها أكثر مما يتذكر احفاده. وتابع: فى عهد الرئيس الاسبق محمد حسنى مبارك تم تشريدنا وتشريد الألف من العمال المصريين وذلك عندما اتخذ قرارًا خصصت بيع الشركات ومن ضمنها الشركة التى فنيت عمرى بها وبعدها قررت العودة إلى ديارنا وسكنت بين جدارن تلك الغرفة الموجود بها الان فقط انتظر مجىء الاولاد والاحفاد كى اتذكر معهم أجمل هذه الايام. مشيرًا إلى أنه عندما شاهد حفر قناةالسويس الجديدة شعر بروح ناصر تحلق من جديد فوق سماء مصر وفى كل مكان لتشق الجبل وتبنى من جديد، وما فعله الرئيس عبدالفتاح السيسى فى سنة قمنا بفعله فى سنوات كثيرة، واعاد إلى النفس سكناتها وحركاتها وملامح وجهها وملامسة يدى وهى تقود اللودر لشق السد، ومشاهد العمال فى القناة اعادت لذاكرتى كل مشاهد حراجى القط وهو يعمل فى السد وضحك قائلًا «الشجرة المثمرة فى الكهف ازهرت من جديد». وعن مدرسة السد العالى قال: إننى التحقت بالدفعة الثانية بمدرسة السد العالى وحصلت على دبلوم وقتها كان يسمى دبلوم السد العالى، وانتابتنى فرحة عارمة بعد حصولى هذا الشهادة التى سوف تلحقنى بالعمل فى السد العالى وأضاف بأنه لم يحصل على اى تدريب وكان العمل فى المشروع هو افضل مكان للتدريب والحصول على خبرات تؤهلنى أن أصبح فى داخل هذا المشروع الوطنى لأننى خدمت حوالى 6 سنوات ونصف بالقوات المسلحة المصرية وخضت مع الجيش المصرى حروبه، وكل ما مررت به لم يجعلنى أمل يومًا من خدمة وطنى. يقول عم ثابت تزوج فى عام 1965 وبدأت حياتى الجديدة وسط الجبال مع شريكة العمر التى قدمت معى إلى محافظة اسوان لتشاركنى الحياة الصعبة بعد أن قمت بشراء منزل فى قرية العزب شرق اسوان، وانجبت اول ابنائى اثناء عملى بالمشروع. وتابع: رغم الزواج إلا أنى كنت أعمل كأى عامل فى المشروع، خاصة أن العمل كان هناك حربيًا وحتى المستشفيات عسكرية كانت فى هذا الوقت ولا مجال للكسل أو التراخى نهائيًا، لافتًا إلى ان النوبين فى ذلك الوقت كانوا يعملون معًا فى المشروع، مشيرًا إلى أنه التحق للعمل فى قطاع الكهرباء عقب انتهاء مشروع السد. واضاف أنه كان يحصل على إجازة كل شهرين 5 أيام فقط لرؤية زوجته واولاده لأنه من كان يصطحب معه أولاده لا يحصل على أى إجازات ويكتفى فقط بالساعات التى تمنح له كراحة بعد ساعات العمل التى كانت تصل إلى 8 ساعات فى الوردية الواحدة واليوم الواحد قد يكون فيه 3 ورديات ويكون راحة ساعتين بين كل وردية واخرى كل بحسب طبيعة عمله. وعن رؤية الرئيس جمال عبد الناصر قال عم ثابت: أننى فى المرة الأولى وقفت انظر إليه واصفق مثلى مثل باقى العمال باستغراب شديد لأنى انظر لرئيس الجمهورية وجهًا لوجه ولاول مرة فى حياتى ووجدت الرئيس عبد الناصر وهو يرتدى الحذاء الكبير وينزل إلى الأنفاق ونشاهده كما نشاهد انفسنا ويسلم علينا بيده ويطبب علينا وهو يقول «شدوا حيلكم يا رجالة»، مؤكدًا أنه شاهد الرئيس عبد الناصر ما يقرب من 6 مرات طوال عمله بالسد العالى. وعن شقاء العمل والمعانة قال : كنت إلى أين سوف اذهب للعمل ولقمة العيش صعبة ونحن وجدنا انفسنا فى هذا العمل قائلًا: «أنا صدقت ما لقيت الشغلانة دى اروح فين..واتذكر أننى كنت احصل على 9 جنيهات فى الشهر وقتها وكيلو اللحمة كان ب35 قرشًا، وكنت اشترى بالجنيه لحمة وخضار وفاكهة وكل شىء. وعن لحظة تكريمه من قبل الرئيس جمال عبد لناصر قال : أتذكر هذا الامر جيدًا عندما حصلنا على التكريم وشهادة التقدير وميدالية نحاسية واخرى فضية وخطاب يطالبنى باختيار مكان عملى الجديد بعد انهاء سنوات العمل بالسد العالى وانهاء حروب الجيش المصري في عام 1973.