يظل الطفل هو نقطة البدء والمرتكز الذى تبدأ عنده قصة أثمن وأغلى استثمار فى حياة أى دولة.. الاستثمار فى البشر، ولعلنا نكتشف من كتاب «فلسفة التعليم الإنجليزى وسبل الاستفادة منها» للكاتبة فتحية محمود صديق، أن التعليم ليس فى مصر وحدها ولكن فى العالم العربى بأكمله يحتاج إلى فكر ثورى ليضعه على الطريق الصحيح، ولعل من افضل النقاط الى تطرحها الكاتبة فى هذا الكتاب فكرة الحفاظ على الهوية العربية، فرغم انبهارها التام وإيمانها العميق بقدرة المنهج التعليمى الإنجليزى على خلق جيل أكثر تميزا إلا أنها تدعو للحفاظ على الهوية العربية التى تؤكد الكاتبة فى مقدمة كتابها أن منهاج أغلب دولها التعليمى أدى إلى وأد خلايا التفكير لدى الطفل وأعاق قدراته ومهاراته الإبداعية والأخلاقية خلال رحلته التعليمية فأصبح معول هدم لمجتمعه عوضا عن أن يكون رافدا بناء .. الكتاب الذى ينقل إلينا المنهاج الإنجليزى فى التعليم لطفل ماقبل المدرسة والمرحلة الابتدائية يفاجئ القارئ بحداثة هذا المنهاج الذى طبق بهيئته الحالية عام 1989 عقب صدور قانون إصلاح التعليم عام 1988 بينما فى عام 1998 تم إدخال الاستراتيجية القومية للقراءة والكتابة للمرحلة الابتدائية بغرض تحسين تعلم اللغة، وتؤكد الكاتبة أن المنهاج «المكتوب» قد يفوقه فى الأهمية المنهاج «الخفى» وهو المنهاج الذى يتم من خلاله توجيه الطفل وبث قيم وثقافة المجتمع وخلق الاتجاهات والمواقف عبر رسائل ضمنية منها قبول الفروقات الفردية ونبذ العنف والعنصرية واحترام الأديان والثقافات الأخرى وهى رسائل يومية ايجابية يتلقاها عبر يومه الدراسى الاعتيادى، وإذا كانت الكاتبة قد بذلت جهدا بحثيا كبيرا من خلال احتكاك مباشر «كمغتربة من اليمن الشقيق» أصبح أبناؤها طلابا فى مدرسة انجليزية ، فإن كتابها هذا قد يعتبر من أهم الكتب التى تقدم الحلول النموذجية لتطوير التعليم فى البلاد العربية دون أن يغفل المقارنة بين ما يقدم للطفل فى المنهاج الإنجليزى وما يقدم فى عدد من البلاد العربية من مناهج تعليمية لا يمكن أن توصف إلا بالتأخر الشديد ، وتقول المؤلفة في مقدمة كتابها : «الحاجة إلى تعليم يعنى بتربية الانسان العربي تربية شاملة واعداده لتلبية احتياجات التنمية أصبحت مطلبا ملحا ، وهاجسا يؤرق القائمين على التعليم والمفكريين وذوي الاختصاص، وقد أصبحت أوطاننا تعج بالمفاسد المؤدية للهلاك ، وهذه المفاسد سببها أفعال الانسان، الذي كان يوما ما طفلا» ولم تقدم لنا الكاتبة المحاور الأساسية لهذا المنهاج وآليات التطبيق العملى فحسب بل قدمت صورا من تلك التعاملات اليومية بين المعلمين والطلاب ومن سلوكيات هؤلاء المعلمين وأساليبهم التربوية والتعليمية التى تحقق «المنهاج الخفى» ومن تعامل الآباء مع المدرسة ومع الطلاب، مؤكدة أن طبيعة التعليم مختلفة ومتميزة مثيرة للحيرة خاصة بالنسبة للوافدين الجدد الى المجتمع الانجليزي ، حيث لا يوجد كتاب مقرر للمادة الواحدة ، بل يدفع لاستنباط المعلومات حول الموضوع بالطرق العلمية المتبعة كالتفكير والتجريب والاستدلال والتخمين والملاحظة والاستنتاج , ويقرأ في أكثر من كتاب توفره المدرسة أما في مكتبة الفصل أو مكتبة المدرسة أو بالذهاب الى المكتبة العامة القريبة! ونعنى هنا بما قدمه الكتاب من معلومات حول قيمة الأنشطة والثقافة والفنون فى هذا المنهاج، ويأتى فى المقدمة اعتياد الطفل البحث عن المعلومة ودخول المكتبات وطرق تعليمه اللغة وأساليب الكتابة نهاية بالأنشطة الفنية التى تلعب دورا هاما فى هذا المنهاج، وهى أمور تفتقدها مدارسنا التى تفتقر بشدة إلى تفهم واضعى المناهج إلى الأهمية القصوى التى تلعبها الأنشطة سواء الرياضية أو الفنية أو الثقافية فى تنمية وصقل مهارات الطفل ووعيه وروحه وتنقية ما قد يعلق بتلك الروح من شوائب تسببها عوامل كثيرة خارج جدران مدرسته. ومن المؤكد أن الكتاب يحمل رؤية كاملة لتطوير التعليم وأن ما نطرحه هنا هو اجتزاء لتلك الرؤية لكنه دون شك جزء كبير وهام من الكتاب الذى يقع في 271 صفحة وصدر عن مؤسسة سندباد للنشر والإعلام. وتتضمن محاور المنهاج التعليمى الذى يطرحه الكتاب: «الربط بين الموقف والكلمة، التنظيم،استخدام اللغة»، إضافة إلى أهمية كل من : العلوم والتكنولوجيا في المدرسة، الأنشطة المدرسية، التربية الفنية «الرسم» ، «التوالي التعاقب» ثقافة العمل التطوعي، مفهوم اللعب في المدرسة، مفهوم الصداقة في المدرسة ، وقد تقوم الدنيا ولا تقعد إذا ما قلنا أن طفل المرحلة الابتدائية يتعلم الكتابة الإبداعية فى درس اللغة، ومنها كتابة الرسائل الرسمية وغير الرسمية والكتابة الإقناعية وكتابة التقرير غير المرتب ترتيبا زمنيا وصياغة الأسئلة وإعادة كتابتها على هيئة مقال واستعمال الحواس وجماليات اللغة فى التعبير الكتابى. وكتابة المراجعات النقدية للكتاب المقروء، وكتابة القصة والنثر والشعر، بل ان الطفل يتم توجيهه لصنع وتأليف كتاب!. وتشمل مادة التربية الفنية: المسرح والموسيقى والرسم والنحت وهى ترقى إلى مصاف المواد الدراسية الأخرى، وتعدد الكاتبة فوائد الرسم التى قد تدهش الكثيرين ومنها المساعدة على التركيز والتفكير الإبداعى كطريقة لحل المشكلات وتطوير التنسيق البصرى والحركى للطفل وتحفيز الإدراك وتقوية الملاحظة. وتلفت الكاتبة النظر إلى أن المدرسة «تشجع أولياء الأمور على الحضور الى المدرسة للقيام ببعض الأعمال التطوعية مثل قراءة القصص للأطفال والاستماع لهم يقرأون, أو الذهاب معهم في رحلة دراسية أو المشاركة في الأنشطة المختلفة» وتضع يدها على الجرح حينما تقول: «كنت غالبا لا أتردد في القيام بأي عمل يطلب مني رغم غياب ثقافة العمل التطوعي في منظومة التعليم التي تربيت ونشأت عليها». وتضيف: «وفي فترة لاحقة أتيحت لي فرصة العمل في احدى المدارس وكنت قد التحقت بعدة دورات تدريبية وبرامج تعليمية في طرق التدريس المساندة لتزايد اهتمامي بهذا المجال لما لمسته من فارق كبير بين نظامنا ونظامهم التعليمي , وقد ساعدتني هذه الفرصة على البقاء في المدرسة ساعات أطول وبدأت ألاحظ وأسجل المواقف, وأدون الملاحظات, وأسمع حوار المعلمين مع الأطفال وأرجع الى الكتب التي تتحدث حول فلسفة التعليم والأبحاث التي محورها الطفل ودوره في العملية التعليمية، حيث تبين أن للطفل قدرات عظيمة وامكانيات هائلة، وأن مهمة التعليم هو دعم هذه القدرات وتطويرها وصقلها وتوجيهها بهدف اعداده للمساهمة في عملية التنمية ومن ناحية أخرى تطوير شخصيته وايصاله الى مرحلة التكيف مع الذات ومع الآخرين في مجتمع المدرسة وتدريبه على الانضباط الذاتي والنظام والمسئولية واحترام القوانين والالتزام بها وغيرها من القيم وكنت أرى التطبيقات العملية لها على مدار اليوم الدراسي». وعن تعامل المدرس تقول: «يبدأ المدرسون يومهم قبل الطلبة بساعة أو أكثر للتحضير» وينتهي في الثالثة والنصف، إلا أنهم غالبا ما يبقون في المدرسة لانجاز بعض الأعمال أو لحضور الاجتماع المسائي مع مديرة المدرسة «مرة في الأسبوع ويبدأ في الرابعة مساء» أو المشاركة في الأنشطة المدرسية , ومع كل ذلك يمكن أن يستقبلوا أولياء الأمور بابتسامة عريضة في نهاية اليوم ولديهم الاستعداد للاستماع لهم في أمر ما يخص طفلهم . بالإضافة أن المدرسة تخصص يوما في كل فصل دراسي يستقبل فيها المعلمون أولياء الأمور كل على حدا وذلك في الفترة المسائية «Parent Evening» لمناقشة التقريرالفصلي أو السنوي والذي يتضمن تفصيلا دقيقا يعده المعلم أو المعلمة عن مدى التقدم الذي أحرزه طفلهما في كل مادة وماهي المهارات التي أكتسبها، أو أية ملاحظات يرى كل منهما ضرورة التحدث عنها في سبيل تعزيز قدرات الطفل التعليمية أو السلوكية». وتضيف: ويبقى المعلمون في المدرسة في هذا اليوم الى الثامنة مساء لاتفارقهم الابتسامة رغم الانهاك البادي على وجوههم».. اما مديرة المدرسة فلاتقبع في مكتبها الا للضرورة ، ولايوجد من يقوم بعمل الشاي والقهوة لها أو لضيوف المدرسة، حيث لايوجد ظاهرة «الفراش» بل تقوم بذلك بنفسها , وتبرز الكاتبة الوجه الآخر للتعليم فى بلادنا وكيف أصبح الطفل أكثر عداء تجاه المدرسة وكيف تبث ثقافة الخوف والكراهية والعنف، إضافة إلى اساليب بعض المدرسين العقابية تجاه الأطفال وكيف تتحول البيوت فى أيام الامتحانات إلى ساحات حرب إضافة إلى أساليب التعليم التى تعتمد على التلقين والحفظ، وتخلو من التفكير الإبداعى.. وتضيف إلى تلك المؤثرات السلبية الحروب التى عاشتها دول عربية على مدار السنوات الماضية وتاثيرها على الطفل. يذكر أن الكاتبة فتحية محمود صديق حاصلة على درجة الماجستير في الدراسات التربوية وموضوع البحث: تأثير نظام تعيين واختيار معلمي المرحلة الابتدائية في اليمن 2011 جامعة كينجستون لندن، ودبلوم الدراسات العليا في الإدارة الإستراتيجية كلية U.C.K لندن، وبكالوريوس القانون– كلية القانون والسياسة– جامعة بغداد، وعضو نقابة المحاميين، وعضو الكثير من المؤسسات التربوية .