في ذلك اليوم 9 فبراير..يوم قطع الراحل الكبير احمد بهجت سلسلة مقالاته التي بدأها قبل ثورة 25 يناير عن عيسي عليه السلام،ليكتب مقاله عن "بركان الشجاعة"،كان المقال حدثا في جريدة الأهرام،أن يشبه كاتب في جريدة النظام الرسمية رئيس الجمهورية الذي مازال في الحكم بفرعون موسي،أن يسمي مبارك بالطاغوت،ويحكي لقرائه كيف أسقط ربنا فرعون سقوطا ليس له مثيل في العظمة والقوة وذلك عن طريق إغراق جحافله الجبابرة ممن توهم أنهم جنوده، ويصفهم بأنهم كانوا جنود البغي،في ذلك اليوم 9 فبراير وفي كل الأيام التي سبقته وتلته،برهن أحمد بهجت أن قلمه لا يخشي إلا الله،ومنذ أيام أسلم أحمد بهجت روحه إلي بارئها..ومن مسجد السيدة نفيسة التي حمل لها محبة خاصة طوال حياته تركنا في دهشة ومضي إلي منتهي الطريق الذي اتخذه إلي ربه،نعم تركنا في دهشة،فأنت بقدر ما تعشق قلم هذا الرجل إلا أنك ستفتش أكثر في حقيقته وجوهره وتتأمل وتندهش عندما يغادرك،فهو كأزهار الفل والياسمين التي كتب عنها،رجل يقدم عطره للناس مجانا،رجل يملك رفعة مقام وزهد ولا يحب الاقتراب من السلطة،يملك صدقا وخفة دم تصل احيانا إلي حد السخرية اللاذعة،علم وحلم ورحمة..يملك ناصية المقال والقصة..ويملك القدرة علي الإيجاز والتفصيل والإيحاء والمباشرة..يفسر آيات القرآن الكريم ويربط بإسقاطاته حاضرنا بماضينا،يستشهد بأئمة الصوفية لإصلاح القلوب وتربية النفوس متوقفا طويلا امام عبارة الشيخ الصوفي أبو اليزيد البسطامي "دفعت نفسي إلي الله فأبت علي فتركتها ومضيت" يفسرها،مؤكدا أن الرجل بهذه الطريقة قد كسب نفسه لأن النفس تتبع الفؤاد ولاريب أنها أسرعت خلفه مثل كلب تركه سيده في الطريق،وبهجت هو نفس الرجل الذي يعمل عقله وروحه لفك ألغاز نصوص"النفري" لكنه لا يألو جهدا في البحث عن كنوز الحكمة التي تتواري خلف غموض الكلام، في مقال له يجلس بك علي المقهي ليريك مبتسما جرحك وفرحك وفي آخر يطلق صفارات الإنذار لأن عدونا يرسم حدود المياه الدولية دون علمنا ليسرق ثرواتنا بعد أن تم اكتشاف حقول الغاز الطبيعي في تلك المنطقة،يشعرك أنك أمام من تخلق بأخلاق الله ..يدهشك كم كان رحيما بالحيوان متفهما لمشاعر الإنسان مهموما بالوطن هادئا عند النقاش فصيحا في البيان قادرا علي الإبحار بأشرعته البيضاء إلي عوالم مضيئة وبحار بعيدة ليحصد اللؤلؤ لقارئه من قصص الأولياء وكراماتهم،مستخدما عقلًا محايدًا وروحا شفيفة..لكل ذلك أنت امام حالة حقيقية من الدهشة،لأنه قد آن الأوان لتتأمل كيف أن رجلا مثل أحمد بهجت قد مر بالفعل أمام عينيك..وللحق لم يكن مرور الكرام بل كان حفرا ونقشا في العقول والوجدان وعلامة من علامات الهدي للحق والخير والجمال. ابتسم ماشئت وأنت تتابع "مذكرات زوج"لكنك ستكتشف انه ضحك كالبكاء وفكر ماشئت وانت تتابع السيناريو البديع لفيلم أيام السادات واختزن في ذاكرتك رسائله القصيرة المؤثرة في"كلمتين وبس"هذا البرنامج الإذاعي الذي استمر لسنوات متعرضا لمواقف حياتية يومية قد تبدو بسيطة لكنها كاشفة لمواضع الداء ملخصة للحالة والدواء،أعد قراءة كتاباته للأطفال،ربما ستكتشف انه لم يطبع كتاب بقدر ما طبع كتابه"انبياء الله"، كان الدين ومايتعلق به من روحانيات وقصص موضوعاته المفضلة فأمتعنا ب"قصص الحيوان في القرآن"و "أحسن القصص"و"الطريق إلي الله"و" قميص يوسف" وغيرها من كتاباته الأدبية المميزة وابحاثه القيمة. وقد أثري الراحل الكبير مكتبتنا العربية بما يزيد عن عشرين كتابا إضافة إلي تاريخ صحفي حافل بدأه في جريدة أخبار اليوم عام 1955، ثم مجلة صباح الخير 1957، قبل أن ينتقل إلي جريدة الأهرام عام 1958 وعمل رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا لتحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1976،وقد ترك لنا كاتبنا الراحل ثروة من فن المقال أطل بها علي القراء لما يزيد عن خمسة وثلاثين عاما من نافذة صندوق الدنيا،هذا الصندوق الذي كان علامة من علامات جريدة الأهرام وجعل له الراحل الكبير في قلوب القراء أكبر أرصدة الحب لأنه كان بصدق صندوقا للدنيا مضيئا بالزهد والصدق.