لم يرحل الشاعر بتوقف أنفاسه... بل رحل بالتوقف عن الحلم، لم يكن قرار توقف مجلة المجلة أكثر من جرس للإفاقة أخرج أسامة عفيفى من مملكته الصحفية ليتركه فى واقع آخر قوامه الأشواك والعوائق والكثير من قلة الأصل وربما النذالة الصريحة، ورغم قسوة ذلك الواقع لم يتوقف القلب النابض عن ضخ الدماء والأحلام، كان يملك إجابة لكل «لماذا؟» ولكل «كيف؟» لهما علاقة بصناعة المجلة الثقافية لمعشوقه الأوحد الذى أسماه دائما القارئ العام، كان يراه دائما مظلومًا بتناوله وجبات ثقافية لا تناسب أجهزته الحيوية فكان له الطبيب الذى يبسط له أصعب المعطيات بعبارته الشهيرة «إذا فهمت خالتى ما تقول فسيفهمه القارئ العام» وتلك كانت منهجية قبوله النشر فى مجلة المجلة قلا يتوقف اهتمامه عند جودة المحتوى المعرفى بل يزداد اهتمامه بكيفية تقديم هذا المحتوى بلغة تفهمها «خالته» وإلا فهو محتوى بلا قيمة للقارئ العام. كان مشروعه الأخير هو إصدار مجلة أخيرة للقارئ العام، وكان يدعى أنها ستحقق أرباحًا هائلة، وكل من يعرفه يعرف جيدًا أن قضية الربح هى آخر ما يهمه وأظن أنها لم تكن أصلا فى قائمة الاهتمام لكنها ربما حافز لفريق العمل والمعلنين والمنتجين لهذا الحلم، ولم يكن الشاعر يتحدث عما لا يعرفه بل كان حديث العارف بتلك الصناعة فبفريق عمل لا يتجاوز عدده عدد أصابع اليد الواحدة تمكن من إصدار 51 عددًا منتظمًا من مجلة المجلة التى كانت بشهادة مختلف الفئات المعرفية والثقافية سجلا للثقافة الرفيعة يبحث عنها القارئ العام الذى يهاب لغة المثقفين التى كان يصفها الشاعر بالمقعرة فيجد فيها المادة المعرفية الحية عوضًا عما أسماه الشاعر المادة الميتة فى الإصدارات الثقافية. لا أريد الزج باسمى فى حديث عن الأستاذ أسامة عفيفى لكن ما أعرفه عنه كان من خلال العديد من المناقشات معه من نوفمبر 2015 وحتى دب الخلاف حتى القطيعة فى مارس 2017 لكن الخلاف وحتى القطيعة لا علاقة لهما بما تمثله شخصية الشاعر لى على المستوى المهنى والإنسانى، فخلاف الرأى وحتى الاختلاف فى بعض المفاهيم دون المبادئ لا يمكن أن تكون عنوانًا نختزل تحته تاريخًا ثريًا بالإنتاج والأفكار بل أرى أن كل الخلافات دفنت مع رحيله ولا يبقى بعقلى منه إلا تلك القيمة الفكرية والرصيد الإنسانى لرجل تعلمت منه وصدقت قدرته. من مدارس الليسيه لدراسة الفلسفة ثم التفرغ للعمل الصحفى والاهتمام بالثقافة بفروعها المتعددة والمتنوعة من عمارة وفنون تشكيلية وتعبيرية وتطبيقية تكونت رؤية لدى الأستاذ أسامة عفيفى بعقل فلسفى ناقد وقلب شاعر نابض متقلب المزاج وكانت رؤية حالمة بعقل جامع معرفى لعالم يبدأ لديه من الجيزة ليجوب العالم ويعود إليها... الجيزة حيث يقول إن بها يبدأ كل شيء وعندها ينتهى كل شيء، ولم تغادر الجيزة قلبه ولا أشعاره حتى تختلط التوريات فى تلقيها فلا يعرف القارئ عن معشوقته إن كانت شابة واسعة العينين أم امرأة فى منتصف العمر أم مدينة يتوقف عندها الزمن، بها مقهاه حيث يبدأ يومه بكرسيه وقهوته المرة التى عرفت بقهوة الشاعر وحيث يختم يومه... بكرسيه وقهوته المرة. رثاء من الأصدقاء والمريدين والمحبين يدور حول صفة واحدة لازمت اسمه، «النبيل» كلمة لم تفارق حزن الجميع، الإنسان النبيل والشاعر النبيل، وفى العزاء كان أصدقاء الشاعر النبيل يعزون أنفسهم ويتلقون العزاء يتذكرون مواقف جمعتهم بصمت حزين وابتسامة باهتة لا يعرفنى أحد فى العزاء فراقبت بحرية خجولة وفود المعزين رأيت من جاء لأن عليه المجىء ومن جاء لأنها فرصة لمقابلة آخرين ورأيت من كان هناك من أصدقاء الشاعر النبيل يتلقون العزاء رغم كونهم جالسين بالقاعة بالطابق العلوى إلا أنهم يتلقون العزاء من كل من عرف الشاعر النبيل، أصدقاء وأساتذة وتلاميذ الشاعر النبيل يعزون الدكتور أحمد مجاهد الذى كان حزنه باديًا وربما كان يراقب أيضًا المعزين بصمت كان يتوقع المزيد ممن ساندهم وساعدهم الشاعر النبيل، فزاد حزنه حزنًا أن يرى أقل من توقعاته... واستطعت تفهم حزنه لأن ما رأيت كان أيضًا أقل من توقعاتى، وفى قاعة السيدات كانت أسرة الشاعر النبيل تعزى تلميذاته قبل تلقيهن العزاء منهن. تعاملت مع عدة شخصيات فى جسد واحد حين تعاملت مع الأستاذ أسامة عفيفى، قابلت صانع المجلات الذى يعرف أسرار «الطبخة» كما يسميها، وتعجبت كيف لا تسلم وزارة الثقافة مديرى تحرير إصداراتها له ليتعلموا سر الطبخة من أحد أمهر الطباخين فى العالم العربى فى تلك الصناعة، وقابلت الناقد اللاذع صاحب التوريات الساخرة والمؤلمة وقابلت مناهض التطبيع وفاضح المطبعين من نهاية السبعينيات وحتى نهاية مشواره، قابلت أرشيف الثقافة المصرية حين يحيطه التجلى بالحديث عن نشأة الوزارة ويسترسل فى الحديث عن فتحى رضوان ويحيى حقى ثم ثروت عكاشة وعبد القادر حاتم، ثم يهاجم بشدة قرارات السبعينيات التى وأدت الثقافة المصرية كما يقول، وقابلت الشاعر النابض الذى يستمتع بألاعيب الشعر فيفخخ أشعاره بالتورية والتناص كأحجيات ويفرح كالأطفال بمن يكشف أحجياته وتعلو ضحكته، وقابلت الفيلسوف الدارى بعلم النفس والباحث عن الدوافع، يربط الأزمنة فيخلق من الماضى تفسيرا للحاضر ويخلق من الألم دافعًا للأمل، قابلت باعث الأمل فى الجميع، أجابنى على سؤال حول الغد ذات مرة بندوة عامة بصوت جهورى وإلقاء مسرحى بكلمات قصيرة تظهر بين حروفها كل تلك الشخصيات قال بصوته الرنان:- قلت: جبلٌ جهمٌ يسدُ الطريق.َ ولا أملك الا دبوسًا... قال: دبوسك يكفى.. وأخذ يردد محركًا سبابته فى الهواء دبوسك يكفى... دبوسك يكفى... ولا أجد لعزاء المحبين إلا أكثر العبارات التى رددها من يحبون فأعزى نفسى وأعزيكم بعبارة الشاعر والإنسان النبيل أسامة عفيفى «وربنا بكرة أحلى» ............................................. مدير تحرير مجلة عالم الكتاب