الثورة هي ترسيخ شرعية ثورية جديدة بعد الإطاحة بشرعية الفساد والتسلط والغدر، ومن ثم فإن الإطاحة برموز شرعية الفساد ليست إلا خطوة مبتدأة علي طريق العديد من الأميال.ولم يكن غريبا أن تتوالي العقبات والموانع علي طريق ما سمي بمرحلة الانتقال، ولم يكن ذلك تقصيرًا في توافر الإخلاص والنيات الحسنة للشركاء في مرحلة الانتقال، ولكنه كان إنعكاسًا لقصور في التنظيم والتعبئة من كل الأطراف المعنية، وشباب الثورة لم يستوعب في فبراير بعد الإطاحة برموز الفساد والتسلط أن المهمة الأولي والأكبر تستلزم تغيير أسلوب الحشد غير المنظم للجماهير المشحونة بالرغبة في التغيير والإصلاح، و لكنه يقتضي تنظيمًا قوميًا شاملاً وتعبئة لكل التوجهات الثورية استعدادًا لكفاح متصل لاستئصال شأفة شرعية الفساد والغدر تمهيدًا لترسيخ الشرعية الثورية. ولقد ناشدنا في تلك المرحلة شباب الثورة التوحد في ظل المبادئ الأساسية للثورة تحت لواء المجلس الأعلي لحماية الثورة برجاله الشعبية التي تغطي كل الأبعاد الوطنية وتفادي التشرذم والمزايدات حول توجهات فرعية وهامشية، وناشدنا المجلس الأعلي للقوات المسلحة مصادرة أملاك وأموال النظام البائد وتغطية احتياجات القيادة الثورية من هذه الموارد تحت إشراف الجهاز المركزي للمحاسبات واعتبار القيادة الثورية شريكًا استشاريًا ملزمًا في تحديد معالم وخطوات مرحلة الانتقال. وفي الحقيقة ان القيادة الثورية والمجلس الأعلي للقوات المسلحة لم يكونا مؤهلين لهذه المشاركة الحتمية بحكم الإمكانات الثورية التي كانت تفتقر إلي الإرادة والقدرة التنظيمية. ومن ناحية أخري كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة- بحكم تكوينه ووظيفته الدستورية- غير مؤهل للمشاركة في إرساء قواعد شرعية ثورية جديدة، كما أن الظروف الوطنية حتمت علي المجلس إعطاء أولوية لضرورة انضباط الأمن والاستقرار حتي إن اقتضي ذلك تبين مختلف التوجهات السياسية فالدين العام يغطي تريليون جنيه والتضخم بالقطع يتخطي ال 51٪ المعترف بها رسميًا، وحصيلة الضرائب والسياحة والاسثمارات الأجنبية في حالة تدهور متسارع وتكاليف المعيشة وارتفاع أسعار المواد الغذائية والمستلزمات الأساسية يتسارع في ظل الأزمة العالمية والمحلية ومعاناة الفئات محدودة الدخل تتضاعف بانهيار أجهزة الخدمات التعليمية والصحية والمواصلات والبيئة، إضافة إلي انهيار الأمن والإعلام وتصاعد احتجاجات كل الفئات الخدمية والإنتاجية ومن ثم تباعدت أولويات المجلس العسكري والقيادات الثورية حتي أغفل الحوار بينه المشكلات الأساسية مثل: الاختلال الإقليمي وتصاعد مشكلات البطالة وإنتشار رقعة الفقر وانهيار الخدمات التعليمية والصحية والإعلامية والامنية. والآن نحن نجابه مرحلة اختيار شرعية بديلة عن طريق انتخابات منفتحة وفي ظل عشرات من الأحزاب الوليدة أو التي تمر بمرحلة النقاهة بعد أربعة عقود من الكبت والإرهاب والفساد حتي إنني بعد 57 عامًا من الممارسة السياسية والوطنية والمتابعة الدائبة لوسائل الإعلام الحكومية والحزبية والمستقلة لا أستطيع أن أتلمس طريقي للتعرّف علي توجّه مؤهل للدعم والمساعدة وعملية إشهار أعتاب جديدة يبدو أنها مازالت مستمرة حتي بعد فتح باب الترشح وتردد الأحزاب في إعلان قوائمها أو التنسيق فيما بينها يريد البلبلة والضباب أمام الناخب المصري الذي يختار بين تقلّب التوجهات الحكومية والمزايدات الحسبية والتناحرات علي الأمور الهامشية.. وفي الحقيقة إن هذا المأزق ليس جديدًا علي الحركة الوطنية المصرية.. والثورة المصرية لم تبدأ في 52 يناير 1102 ولكنها بدأت في اواخر القرن التاسع عشر بقيادة الزعيم البطل أحمد عرابي واستكملت حلقاتها ثورات 9191،5391،6491،2591، وفي كل حلقة من هذه الحلقات لم تصل إلي تنسيق قواعد الشرعية الثورية الجديدة إما بحكم التدخل الاستعماري لثورة أحمد عرابي، 9191،2591 أو بحكم افتقار الثورة إلي القدرة والإرادة علي الحشد والتنظيم والكفاح طويل النفس مثلما حدث في ثورة 5391 لاسترجاع دستور 3291 أو ثورة 6491 لإجهاض معاهدة صدقي بيفن لتأييد القاعدة الاستعمارية في قناة السويس وإخراج القوات المسلحة البريطانية من القاهرة والإسكندرية استعدادًا لمجابهة الإقطاعية الملكية.. وفي كلتا الثورتين تحقق الجزء الأول من أحداث الثورة ولكن سرعان ما التأمت حشود الرجعية والاستغلال والاستعمار لمنع استكمال خطوات ترسيخ الشرعية الشعبية. وليس عجيبًا أن يمتد كفاح التحرر الوطني في مصر إلي قرن وربع من الزمان.. فالموقع الاستراتيجي والمصالح الاستعمارية وثراء الحضارة المصرية القائدة للشعوب العربية والإفريقية كانت دائما وأبداً دافعاً لتوحد والتئام صفوف كل قوي الرجعية والفساد والاستغلال. ومع ذلك فالجواب عن السؤال المطروح وهو: هل فات الأوان؟ بالقطع هو جواب بالنفي. فرغم كل الصعوبات والعقبات والضباب فما زال القول الفصل هو للناخب المصري وفي كل التحارب الثورية السابقة لم يتوان أو يتأخر الشارع الوطني عن تقدم الصفوف ورفع اللواء واقتحام الحصون وكل ما افتقر إليه القيادة والتنظيم والحشد طويل المدي وبالرغم من معاناة حلقة ثورة 52 يناير المشكلات نفسها والقصور فإن تصاعد الواعد الشعبي ورفاهية الحس الجماهيري وإقدام الالتزام الاقتحامي يلقي بالعبء الكامل علي كاهل جماهير الشارع الوطني وعليه أن يستلزم الواقع المرير وتجاربه السابقة المحبطة وتحفظ القوي المعارضة الداخلية والخارجية في اختيار المرشح الأكثر تجاوبًا مع أهداف ومبادئ الثورة وتنحية كل القوي المعارضة والانتهازية إلي المجالس المقبلة.