دخلت الآلة العسكرية الروسية إلى سوريا فى سبتمبر من عام 2015، ضربت معاقل جميع التنظيمات الإرهابية، ودمرت مخازن الأسلحة السرية الخاصة بها، وقطعت كافة الطرق الرئيسية لخطوط الإمداد والتموين التى تأتيهم من غرفتى العمليات التى تدار من تركيا والأردن فى زمن قياسى. وفى غضون عام تحرر العديد من المدن الواقعة تحت قبضة هذه التنظيمات الإرهابية واحده تلو الأخرى، وأهمها مدينة حلب العاصمة الاقتصادية لسوريا، ولم يتبق سوى المعركة الأخيرة فى الرقة عاصمة دولة الخلافة التى أعلنها أبو بكر البغدادى، زعيم تنظيم داعش عام 2014، للقضاء على هذه التنظيمات. أثبت القيصر الروسى لشعوب العالم، أن ضربات قوات التحالف الدولى الموجهة إلى معاقل هذه التنظيمات الإرهابية، لم تكن سوى جزء من سلسلة أفلام هوليوود العالمية. ونجح بوتين فى مساعيه على الصعيد العسكرى، وتمكن من تشييد حائط صد منيع على الحدود التركية مع القوقاز. ولذا جاءت الكلمات الأولى للرئيس الروسى فلاديمير بوتين إبان التدخل العسكرى، أنه قادم للقضاء على هذه الجماعات الإرهابية قبل اصطفافها ناحية دول القوقاز. أى أن التدخل العسكرى الروسى فى سوريا من مفهوم بوتين، يُعد ضربة استباقية لإجهاض تحركات واشنطن الإرهابية فى آوراسيا الوسطى. بالطبع الطموح الروسى فى سوريا لم يتوقف عند تقديم الدعم العسكرى لقوات بشار الأسد فى حربها ضد الإرهاب، فالقيصر الجديد يريد الوجود فى المنطقة الدافئة بالبحر المتوسط، بعد أن أدرك أهم العوامل الاستراتيجية التى ساعدت على انهيار الاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة، فهذه الإمبراطورية امتلكت أقوى الجيوش البرية فى العالم، لكنها لم تؤسس لقواعد بحرية وجوية حول البحار والممرات المائية الدولية بالقدر الكافى أمام النفوذ البحرى الأمريكى. كان لبوتين ما أراد فقد منحته الحرب السورية قاعدة باسل الأسد باللاذقية، ليُسجل التاريخ امتلاك روسيا وريث الاتحاد السوفيتى قاعدة جوية على البحر المتوسط للمرة الأولى، بجوار قاعدة طرطوس البحرية الإرث السوفيتى القديم. وخلال شهرين كانت روسيا تتفاوض على إنشاء قاعدة عسكرية جديدة بقبرص، فى ضربة جيوبوليتية لتركيا. وبالتأكيد تسعى موسكو للتمدد بقدر الامكان فى المنطقة الدافئة، مستغلة حالة الصراع الاقليمى، وعينها على شواطئ ليبيا واليمن. وبنهاية المطاف نجحت موسكو خلال عامين أن تصبح رقمًا صحيحًا ليس فقط فى معادلة الحل السورى فحسب، بل إيضًا فى الحرب اليمنية، فموسكو تحتضن اجتماعات سرية مع الحوثيين كورقة ضغط على المملكة السعودية. وكذا تقوم موسكو بدعم الجيش الليبى تحت قيادة المشير خليفة حفتر فى مواجهة النفوذ الأطلسى. إذن العالم أمام امبراطورية روسية ناشئة، سوف تعلن عن نفسها فى المنطقة الدافئة، بعد أن كسرت الاحتكار الأمريكي- الأطلسى لسواحل المتوسط. وبنفس ديناميكية السلاح الروسى الذى تحدى احتكار حلف شمال الأطلسى لخيار التدخل العسكرى فى المنطقة، أصبحت ديناميكية السياسية الروسية لها اليد العليا. فالسلاح الروسى فى سوريا يُستخدم كوسيلة لفرض السيطرة على الأجندة الدبلوماسية الدولية فى اجتماعات التسوية السياسية المنعقدة بجينيف، ومؤخرًا فى الآستانا عاصمة كازاخستان.وقد توقعناها فى كتابنا الصادر فى ديسمبر من عام 2015 ( خريف الاحتلال المدنى - حقيقة ما جرى للعرب فى لعبة الحروب الدينية). جاءت الدبلوماسية الروسية بواقعية التدخل العسكرى. فقد نجحت فى جذب الرأى العام العربى الساخط على الموقف الأمريكى من الإرهاب، ويرى فى الدور الروسى اللاعب الاستراتيجى الجديد، الذى يمكن أن يعدل كفة الميزان المائلة لصالح الإمبريالية الأمريكية فى المنطقة، والقوى القادرة على التصدى لغطرسة ونفوذ البيت الأبيض، إيضًا لا تزال الشعوب العربية تتذكر دور القوى الناعمة الروسية عبر قنوات فضائية روسية ناطقة بالعربية كانت تُبث منذ العام 2011، والتى كشفت الكثير من عورات الثورات العربية، ومخططات الغرب التى استهدفت مجتمعاتهم. كما عمدت التحركات الروسية فى المنطقة العربية إلى سياسة الاحتواء، خاصة مع الدول التى لا ترتبطها معها عقود تسليح أو تجارة، كالأردن التى تسكنها جالية شيشانية تمتلك النفوذ داخل الحركات الانفصالية بالشيشان . وسعت موسكو إلى خلق بيئة استثمار جيدة مع دول الخليج اللاعب المؤثر فى المشهد السورى، كما نجحت فى إنشاء مجلس اقتصاد بين روسيا والدول العربية فتح أول فرع له بالعراق فى مارس من عام 2015، ضم اتحاد الصناعات ورجال الأعمال الروس لتعزيز سبل التجارة، وتنفيذ الخطط الاقتصادية بين روسيا والدول العربية. وحرصت روسيا على الربط السياسى مع الكيانات العربية فبدأت فى تعزيز سبل التعاون مع المؤسسات الإقليمية كالجامعة العربية و منظمة التعاون الإسلامى. وفى مجال التسليح عقدت روسيا صفقات أسلحة استراتيجية ضخمة مع مصر. فمن وجهة نظر الكرملين دخول السلاح الروسى إلى المنطقة العربية لا يمكن أن يمر دون العبور من بوابة القاهرة، وعلى الجهة الآخرى، امدادات السلاح الروسى قد ساعد مصر على ملء الفراغ العسكرى الناجم عن قرار إدارة الرئيس الأمريكى السابق أوباما، بقطع المعونات العسكرية، وإمدادات السلاح عن الجيش المصرى بعد ثورة المصريين فى الثلاثين من يونيو 2013.. لم تقتصر العلاقات الروسية المصرية على التعاون العسكرى عالى المستوى بين البلدين، أو على صفقات السلاح الروسى فحسب، بل امتدت إلى القطاع الاقتصادى بالتوقيع على اتفاقيات عدة أهمها، اتفاقية إنشاء منطقة صناعية روسية فى شرق بورسعيد، وكذا اتفاقية إقامة منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الاقتصادى الآوراسى ومصر، بالإضافة إلى اتفاقية إنشاء محطة للطاقة النووية فى الضبعة. وللحديث بقية