كان العام 1995، عام اختراق الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الحر، للمجتمع المصري، بأدبيات العولمة التي تُقدم الديمقراطية مدعومة بالمنظمات الدولية، كتوءم لاقتصاد السوق الحر، وقد كونا معا استراتيجية النموذج الغربى للرأسمالية فى نسخته الأمريكية بعد انهيار الاشتراكية، ووضعت أهم ملامحه خلال مؤتمر برشلونة الأورومتوسطي عام 95. اقترح في المؤتمر العديد من السياسات من بينها، تعزيز الديمقراطية، والحكم الرشيد، وحقوق الإنسان، وتحقيق شروط تجارية متبادلة لشركاء المنطقة، وقد وضعت تلك الشراكة الأسس لما بات يعرف بالاتحاد من أجل المتوسط - الذي أعلن عن تأسيسه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عام 2008، خلال مؤتمر قمة باريس من أجل المتوسط. الاتفاقية وافقت عليها الدولة بعد عرضها على كافة الأجهزة الأمنية آنذاك، والموافقة هنا تعنى عدم الاضرار بالأمن القومي المصري. وبمرور الوقت اكتشفت الدولة أن الليبرالية الجديدة، هي المحرك الأساسى للعولمة، والمقصود هنا انتصار أيديولوجية اقتصاد السوق الحر، والنمط الاستهلاكى، وإعلام الترفيه، والخصخصة، وخلافه.. والنتيجة كانت تقليص سيادة الدولة وتهميش دورها، وأصبحت أمور إدارة الدولة قاسمًا مشتركًا بين الحكومة والمنظمات الدولية. وما أن أشتد عود العولمة، أصبحت الدولة عاجزة عن تقديم الخدمات الاجتماعية للمصريين وفى مراحل متقدمة أصبحت الدولة غير قادرة على حماية رؤوس الأموال الأجنبية، فاتجه أصحاب الأموال للشكوى إلى المنظمات الدولية. العام 2004، أطلق جورج بوش الابن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وقد ارتكز على أهداف نبيلة في مواجهة التدهور الكبير في الأوضاع العربية بمختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. المشروع تم دراسته من قبل الأجهزة الأمنية في مصر دراسة وافيه واصدرت تقريرها بالإيجاب. تم الإعلان عن نص المشروع في مارس من عام 2004، بعد أن طرحته الإدارة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية الثماني، وقد اعتمد على ثلاثة محاور رئيسية: المحور الأول تشجيع الديمقراطية والحكم الرشيد: فظهرت منظمات المجتمع المدني غير الحكومية بدولاراتها البرتقالية تحت غطاء نشر الديمقراطية، ودعم ظهور الصحف المستقلة، وتكريس جهود الشفافية ومكافحة الفساد. اقتحمت هذه المنظمات المجتمع المصري، تحت حماية الاتفاقيات الدولية المذيلة بتوقيع الجانب المصري، وبدأت تسطر أهدافًا نبيلة، وشعارات براقة، ولم ينتبه أحد لهذه المنظمات التي ضمت بين جنباتها خطط اختراق المجتمع المصري، تنظيم ندوات، وزيارات، وتدريبات تستقطب الشباب، تضمن الولاءات، وتجند العملاء، وكلما زادت الدولارات البرتقالية؛ اتسعت مساحة التوغل والاختراق داخل جدران الصحافة والإعلام، وبين طبقات النخب والمثقفين والأدباء والساسة والفنانين، الذين تحولوا بمرور الوقت إلى فئران تتسلل ببطء لتقرض جدران الدولة، وتختصم الشعب مع مؤسسات الدولة، لليلة الموعودة. المحور الثاني والخاص ببناء مجتمع المعرفة: عبر مبادرات، التعليم الأساسي- التعليم على الإنترنت - تدريس الأعمال. ولم تكن التمويلات البرتقالية لبرامج الأممالمتحدة، سوى خطط طمست الهوية المصرية، ولم يكن تغيير أُطر مناهج التعليم إلا لتتواءم مع تعاليم وقيم الغرب، ودمج أجيال ناشئة بالفضاء الثقافي الغربي، وكذا تكوين شبكات عنقودية على شبكة الانترنت تستطيع التأثير في مريديها. أما المحور الثالث والأخير من هذا المشروع، والخاص بتوسيع الفرص الاقتصادية: فقد تضمن برامج تمويل النمو الاقتصادي، وإقراض المشاريع الصغيرة، وهي برامج لم يجن من ثمارها المصريون سوى القليل، ولكنها فتحت الباب على مصراعيه لرؤوس الأموال الأجنبية التي سيطرت على الاقتصاد المصري. هكذا قدم مشروع الشرق الأوسط الكبير نفسه للمصريين، رسول المحبة الذي يحمل الخير للأمة. فالديمقراطية والحكم الرشيد يشكلان الأُطر التي تتحقق داخله التنمية, والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية, والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة هذه التنمية. الأجهزة الأمنية في مصر لم تنتبه أنذاك إلى أهداف رسول العولمة الجديد، فهُدمت قيم الأسرة المصرية، وأزدات عولمة الفساد، والمخدرات والدعارة، وارتفعت معدلات البطالة والفقر، وتوقفت عجلة التنمية الزراعية والصناعية وحتى التكنولوجية. وعلى ضوء اتفاقية الأورمتوسطية (1995) ومشروع الشرق الأوسط الكبير(2004) والاتحاد من أجل المتوسط (2008)، بدأت العولمة، وبيادقها من المنظمات الدولية، في التحول من مرحلة تفريغ الدولة مما بحوزتها من نفوذ على أراضيها، إلى مرحلة إسقاط أركان الدولة الرئيسية «الشعب - الإقليم - النظام السياسى» عبر خطط اختراق الأمن القومى بإضعاف مجالاته المتعددة: السياسى، الاقتصادى، الاجتماعى، المعلوماتى، العسكرى. وبعولمة هذه المجالات تم اختراق الأمن القومى المصري، وبنهاية المطاف لم تحتاج أمريكا سوى توصيل الدائرة الكهربائية، ثم الضغط على زر العد التنازلي لربيع براغ العربي عام 2011. إذن التجربة أثبتت أن خطط اختراق الأمن القومي المصري باتت تتخذ أنماطا طويلة الأمد، وغير تقليدية، وربما غير متعارف عليها من قبل الأجهزة الأمنية، فعادًة ما تتلبس ارواحها الشريرة ثوب الفضيلة والمحبة، وتقدم نفسها للشعوب في توقيتات حالكة السواد، مثلما الحال الأن. فالدولة تعاني من انهيار اقتصادي، وارتفاع نسبة التضخم، وتوقف عجلة الاستثمار، وعجز في الميزان التجاري، وتحولت الدولة إلى بيئة خصبة تسيل لعاب الأعداء، وبدلًا من بحث الحكومة على موارد جديدة حقيقية، تخفف العبء عن الموازنة العامة للدولة، اتجهت إلى بيع الجنسية المصرية للأجنبي، بموجب تعديل أحكام قانون تنظيم الإقامة وقانون منح الجنسية. كلي ثقة أن مصر ستظل بما حباها الله به من جيش من خير أجناد الأرض، وبما عززها في كتابة الكريم، باقية حتى قيام الساعة بخصائص الأمة الواحدة. فالأمة المصرية كتلة بشرية واحدة تجمعها روابط متعددة كوحدة الأصل واللغة والدين والتاريخ والعادات والتقاليد، وتمتلك الإحساس بالانتماء المشترك والرغبة في العيش معًا. أما الشعوب فهي جماعات مختلفة الروابط، تعيش كل جماعة منها في إقليم داخل دولها، وقد اطاحت بهم سايكس بيكو وقسمت أوطانهم، ولم تتمكن من المصريين. وليعلم الجميع أن خصائص الأمة هي من عبرت بالمصريين فوق موجات الربيع المتتالية إلى بر الأمان، بينما تهاوت شعوب الدول الأخرى. وليعلم القاصي والداني، أن هذا القانون المشبوه سوف يعبث بجينات المجتمع المصري، وسيحول المصريين من خصائص الأمه إلى خصائص الشعوب، كما سيورط الأجهزة الأمنية، في توقيت تواجه فيه رجالاتها عمليات التجسس، والحرب على الإرهاب، والجريمة المنظمة، وتهريب السلاح، وغسيل الاموال. اللهم بلغت اللهم فاشهد.