إن الفجوة التاريخية والتى تمخض عنها فقدان الثقة بين الشعب ودولته تكمن من جهة فى قدرة الحكومة على إقناع مواطنيها بضرورة التغيير وحشد الجهود والموارد فى مواجهة حجم المشاكل التى تفرض عليهم تضحيات عديدة وتغيرات جذرية فى التوجهات والمواقف، ومن جهة أخرى فى قدرة المواطنين أنفسهم على إقناع حكوماتهم بتفهم مطالبهم والاستجابة لها وتقبل النقد. هذه الفجوة تتسع بانتشار خطط العولمة داخل جدران الدولة، وتضيق باستيعاب الشعب لتعريف ومفهوم الدولة، فالعولمة من منظور أكثر تأصيلا بالثقافة والمعلومات وفقًا للعَّلامة د.نبيل على هو منظور ثنائية الوجود الزمان والمكان، فى البداية كانت عولمة الزمن باستخدام توقيت جرينيتش ثم جاءت تكنولوجيا المواصلات والاتصالات لتدخل المكان فى دائرة العولمة وبالتالى لم تبق سوى الاحداث التى تحدث فى هذا الزمان وداخل نطاق هذا المكان لتدخل مضمار العولمة التى نادت به أمريكا مع تسعينيات القرن المنصرم لتشمل كل انشطة الانسان وممارساته الاجتماعية، اقتصادية كانت أو سياسية، تجارية أو ثقافية ، خاصة كانت أو عامة وهذا ما فعلته عولمة المعاملات المالية والتجارية والأزياء وموضة قص الشعر ووجبات الطعام وحتى عولمة الأجساد «الرشاقة والتخسيس كنمط معولم تحلم به الفتيات» وحتى عولمة الشر بجرائم المافيا وغسيل الأموال واغتصاب النساء وفساد الحكومات والمؤسسات. والمحرك الأساسى للعولمة هو سيطرة الليبرالية الجديدة والمقصود هنا انتصار أيديولوجية اقتصاد السوق الحر والنمط الاستهلاكى وإعلام الترفيه والخصخصة وخلافه وتقدم هنا الديمقراطية كتوأم لاقتصاد السوق الحر وقد كونا معا استراتيجية النموذج الغربى للرأسمالية فى صياغتها الأمريكية بعد انهيار الاشتراكية. اما النتيجة فهى تقليص سيادة الدولة وتهميش دورها وتصبح أمور إدارة الدولة قاسمًا مشتركًا ما بين الحكومة والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية. إذن العولمة هى السبب فى ارتفاع معدلات النمو دون ان يشعر بها الفقراء وتستمر الدولة فى فقدان سيادتها إلى ان تصبح عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، يحدث هذا تدريجيا ولكن بسرعة حتى تتحول الدولة من راعية لمصالح المواطنين إلى حارسة لليبرالية السوق الحديثة وحامية لرأس المال الخارجى والمحلى فتزداد الفجوة بين الدولة وشعبها. وما ان يشتد عود العولمة تجد الدولة عاجزة عن تقديم الخدمات الاجتماعية كالتأمين الصحى والخدمات التعليمية والرعاية الصحية وحماية البيئة وخلافه بل وفى مراحل متقدمة تجد نفسها غير قادرة على حماية رؤوس الأموال الأجنبية فيتجه هؤلاء للشكوى إلى المنظمات الدولية ويبدأ التدخل الدولى فى السيادة، فيزداد السخط الشعبى على الحكومات وتتدهور الاخلاقيات والثقافات ويٌسيد الفساد ويزداد الخلل فى توزيع الدخول والثروات وتنهار الدول بعد أن يفقد الشعب ثقته فى انظمته الحاكمة التى تواجه بتهم الفساد رغم كونها ضحية النظام العالمى الجديد مثلها مثل غيرها من حكومات العالم التى دخلت مُجبرة فى محراب العولمة حتى لا تخرج من السباق. الدولة ما هى إلا وسيلة لتنظيم السلوك البشرى وفرض المبادئ السلوكية التى ينبغى أن ينظم الأفراد حياتهم على أساسها، فهى التى تصدر القوانين وتعاقب من يخرج عليها كما أنها تملك فرض النظام لضمان طاعتها من قبل الأفراد والجماعات المندرجة تحت ظلها . وهنا تدخل أسلحة العولمة بجنودها من المنظمات الدولية وغير الحكومية فى محاولة سلب الدولة مفهومها الحقيقى وإسقاط أركانها الرئيسية «الشعب - الإقليم - النظام السياسى» كما تعمل على خطط اختراق الأمن القومى بإضعاف مجالاتها المتعددة من المجال السياسى والاقتصادى والاجتماعى والمعلوماتى والعسكرى فمفهوم الأمن القومى فى أبسط صوره هى قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية من التهديدات الخارجية وان سبل اختراق الأمن القومى مرتبط بإضعاف بعض أو كل هذه المجالات، إذن بعولمة هذه المجالات أيضًا تم اختراق الأمن القومى المصرى منذ سنوات عديدة وبالتالى يجب أن نعيد ترتيب أروقة البيت المصرى لمواجهة شرور العولمة بهندسة الثقافة المصرية لتصبح هى محور التنمية الاجتماعية داخل منظومة تكنولوجيا المعلومات التى فُرضت علينا، وهى روشتة تحمل بين طياتها تفاصيل دقيقة طرحها د.نبيل على عبر العديد من مؤلفاته منذ العام 2001، يجب أن تتعامل معها الدولة المصرية بمفهوم جديد وفق مستجدات الساحة الدولية الآن والتى عجزنا عن التصدى لها، فهذا الرجل وضع خارطة للطريق قبل وفاته لمن يرث هذه التركة. كاتب جيوسياسى