القينا الضوء فى مقال سبق كيف اتخذت الولاياتالمتحدةالأمريكية من البرنامج النووى الإيرانى ذريعة لتطوير نظام الدفاع الصاروخى فى أوربا بهدف الحماية من الصواريخ الباليستية الإيرانية، ولذلك سعى بوتين إلى تفويت الفرصة على الأمريكان وكشفهم بإصراره على تسوية الملف النووى الإيرانى ثم تذكير الأمريكان بوعودهم التى حنثوها، إذ أعلن بوتين فى نوفمبر 2015 وبعد خمسة أشهر من الإعلان عن إبرام الاتفاق النووى النهائى مع إيران، أعلن أن الأمريكان لا يتوقفون عن بناء نظام الدرع الصاروخية رغم الوصول إلى تسوية لمسألة النووى الإيرانى ومع ذلك فإن العمل على أنظمة الدفاع الصاروخية ما زال يتواصل، وهدد بوتين آنذاك أن روسيا ستتخذ إجراءات لتعزيز قواتها النووية الاستراتيجية بسبب نشر أمريكا لهذه المنظومة، وقال إنه سيعمل كما أكد مرارًا على المنظومة الضاربة القادرة على التغلب على أى منظومة دفاع صاروخية، وهو بذلك يضرب تفاهمات اتفاقية (إيه بى أم) التى نصت على أن تحد روسيا من بنائها للصواريخ النووية الهجومية، بينما تعلن الولاياتالمتحدةالأمريكية أن هذه الشبكة الدفاعية الصاروخية لا تحدث أى تغيرات جذرية فى الوضع القائم للأمن والتوازن العالميين، فهى شبكة مصممة لصد صواريخ فردية محدودة قد تصدر قصدًا أو خطأ عمن اسمتهم واشنطن بالدولة المارقة , وليست مصممة بهدف - ولا تستطيع- صد هجوم كاسح تكون فيه الصواريخ منهمرة بغزارة سواء أكان مثل هذا الهجوم مصدره روسيا أم الصين, وهى البلدان الأكثر تضررا من اختلال التوازن الذى تحدثه هذه الشبكة، وفى حقيقة الأمر تسعى الولاياتالمتحدة إلى تحقيق تفوق استراتيجى نووى على حساب روسياوالصين، ولا تزال لعبة الردع المتبادل مستمرة بعد إبرام الاتفاق النووى الإيرانى ورغم تحذيرات الرئيس الروسى بوتين ووعيده لإدارة الرئيس الأمريكى الأسبق أوباما، فقد صار الأخير قدما وبدأ تشغيل الدرع الصاروخية بأوربا الشرقية فى مايو من عام 2016 حيث بدأ التشغيل فى رومانيا بتكلفة 800 مليون دولار، وستليها بولندا أواخر عام 2018، وبذلك سيكتمل خط الدفاع الأول الذى اقترح للمرة الأولى قبل نحو عشر سنوات، وهو ما يشكل تهديدًا واضحًا ومباشرًا للأمن القومى الروسى بعد أن أضحت الدرع الصاروخية على مقربة من الحدود الروسية وينذر بتصعيد عسكرى خطير بين الكرملين وواشنطن خاصًة إذا أقدمت الأخيرة على لُعبة الموت وعزمت على نشر الدرع الصاروخية على الأراضى الأوكرانية فهذه الصواريخ الدفاعية يمكن استبدالها بسهولة بصواريخ كروز الهجومية كما انها يمكن ان تسقط أقمارًا صناعية تدور فى مدارات منخفضة. وفى خطوة لتهدئة مخاوف روسيا وتأكيدًا للهوية الفرنسية من جديد تم تولى حلف شمال الأطلسى فى 9 يوليو 2016 قيادة منظومة الدفاع الصاروخية بعدما نجحت فرنسا فى الحصول على ضمانات بأن النظام الذى كلف بناؤه مليارات الدولارات لن يكون تحت السيطرة المباشرة لواشنطن. وفى المؤتمر الصحفى الذى عُقد للإعلان عن نقل القيادة أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسى ينس ستولتنبرغ أن السفن الأمريكية الراسية فى اسبانيا وقاعدة الدفاع الصاروخية فى رومانيا وأنظمة الرادار الموجودة فى تركيا ستعمل معا تحت قيادة الحلف، مؤكدًا أن المظلة دفاعية كليًا ولا تمثل أى تهديد لاستراتيجية الردع النووى الروسية. استمرت الهواجس الروسية من فقدان التوازن الاستراتيجى مع أمريكا مما دفع نائب وزير الدفاع الروسى نيكولاى بانكوف الإعلان أمام مجلس الدومة فى أكتوبر 2016 عن دراسة عودة القواعد الروسية فى كوبا التى كانت موجودة بمنطقة لورديس آبان الاتحاد السوفيتى وفى فيتنام التى كانت موجودة فى قاعدة كامران البحرية وتم سحبها عام 2002. وهى تحذيرات روسية تعيد إلى الأذهان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 كواحدة من أشد المواجهات بين موسكووواشنطن آبان الحرب الباردة والتى كادت أن تضع العالم على أعتاب حرب عالمية ثالثة. الأمر لا يزعج موسكو فقط بل يصل أيضًا إلى بكين بعد ان نشرت أمريكا الدرع الصاروخية على الأراضى الكورية الجنوبية بحجة التجارب النووية التى تطلقها بيونغ يانغ من حين لآخر، وهو ما دفع تشانغ وانغون وزير الدفاع الصينى إلى انتقاد واشنطن بتدخلها فى بؤر التوتر الآسيوى على حساب أمنها القومى أثناء كلمته فى منتدى جيانغشان السنوى السابع للدفاع الإقليمى فى بكين ولا تزال ذكريات الحرب الكورية عالقة فى الأذهان بين بكينوواشنطن. إذن اللعبة باتت مكشوفة وتقرأها موسكووبكين جيدًا، فبينما يسعى المخطط الأنجلوأمريكى لتطويق روسيا الاتحادية والصين عبر دول القوقاز والجمهوريات السوفيتية القديمة بجيوش من التنظيمات الجهادية المرابطة بأسلحتها الثقيلة وعتادها بمنطقة الشرق الأوسط بثورات ملونة جديدة لزعزعة استقرارهما وعرقلة السيطرة الآسيوية على رقعة الآوراسيا، فمن ناحية أخرى تسعى أمريكا جاهدة إلى تطويق موسكووبكين بالدرع الصاروخى النووى عبر مظلة نووية دفاعية تغطى أوربا بالكامل بحجة واهية يُطلق عليها النووى الكورى الشمالى والنووى الإيرانى. هكذا بات المشهد واضحًا ومكتملًا، الحرب الباردة فى نسختها الثانية. تطويق برى بجيوش القاعدة، وسباق تسلح نووي- استنزاف طاقات وموارد- سقوط دول- أنهار من الدماء تسيل على مسرح العمليات فوق الأراضى العربية لضمان السيطرة على العالم، وبقاء الولاياتالمتحدةالأمريكية كقطب أوحد بعد التخلص من الروس القادمين بقوة لاعتلاء زعامة نصف الكرة الأرضية بجوار الصين التى ظلت تعزف من الخلف منفردة فى عالم افتراضى منذ عقود مضت للوصول إلى سن البلوغ على رقعة الأوراسيا.