أتذكرك، لا أنساك، تسيطرين على عقلى، لا تفارقين أحلامى، امتلكت العقل والفؤاد، تهون أمامك كل الأشياء، أسعد كطفل صغير عندما أراك، وأحزن ساعة الفراق.. أيام قليلة ونحتفل بعيد الأم، كنت أهيم على وجهى، أترك كل شىء، أصل إليك قبل الميعاد، أحمل هديتك ومعها قلبى، أسعد كثيرا، وأنا أراك تبتسمين، أقرأ تفاصيل وجهك، وأكاد أشعر بنبضات قلبك.. أرتمى فى حضنك، أشعر بدفء غير عادى، كأن قلبك يقفز إلى داخلى، أراك أكثر سعادة منى، كنت أظن أننى أحبك أكثر مما تحبينني، لكننى فى كل مرة، أكتشف أن بئر الحنان لم ينضب بعد، وأن عواطفك الجياشة تحيط بى من كل اتجاه.. كانت دعواتك لى، تدفعنى إلى الأمام، تأخذنى إلى ناصية الطريق تحيط بى، تحمينى، ترشدنى، تُذهب القلق عن نفسى، تمنحنى القوة والعزيمة، تشعرنى أن العالم كله من حولى.. أيتها السيدة البسيطة، الرائعة، أشتاق إليك، لا يكفينى أن أقرأ الفاتحة وأدعو لك أمام قبرك، أود لو أحتضنتك فى هذه اللحظة، أتذكر سنوات مضت، أيامًا خوالى، كنا فيها نجلس سويا، ألقى برأسى على صدرك الحنون، أستمع إلى نصائحك، لا أستطيع أن أعصى لك أمرًا، ولا أجرؤ أن أقول لك «بم» عندما أسمع لسانك يعكس حنان قلبك.. هل تتذكرين عندما غادرت بلدتى إلى القاهرة منذ أكثر من ستة وثلاثين عاما، أكاد أرى دموعك الساخنة تتدفق على وجنتيك، أشعر بفؤادك كاد يقفز إلى ضلوعى وأنت تودعيننى وتنصحيننى «أوعى يا ولدى مصر تنسيك أهلك وبلدك، اوعى البلاد تاخدك بعيد عنا، فتنسى الجذور، وأحلى الذكريات». كانت كلماتها تدوى بداخلى، تعيش معى، أداوم على الذهاب إلى بلدتى مرة أو اثنتين كل شهر تقريبا، أهرع إليها، أكاد أقبل قدميها، وعندما أعود، كانت تودعنى باكية، تخرج إلى باب منزلنا تظل الدموع تنهمر من عينيها، وكأنها تدور مع محرك السيارة، التى ستمضى بى بعيدًا عنها بعد قليل.. كانت أمى ترتدى الجلباب الأسود الذى لازمها طيلة حياتها، تكسو رأسها بطرحة هى من سمات نساء أهل الصعيد، وحتى يوم زواجى فى قريتى، بذلت معها كل الجهود، من أجل أن تغير لون الجلباب، فكان ردها، «ياولدى الجلباب الأسود أصبح حياتنا، جزء من عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا». كنت أصمت، أسمع كلماتها دون تعليق، لأنى أعرف جيدًا، أننى مهما فعلت لن أستطيع إجبارها على شىء لا تريده، فكنت دوما أحترم رغبتها.. فى كل مرة أسجن فيها فى مظاهرات 77، ومظاهرة قنا سنة 80 ضد افتتاح سفارة اسرائيلية فى مصر، كانت تأتينى خلف «سجن قنا العمومى» وتناجينى، أكاد ألامس دموعها، وهى تسألنى : متى ستخرج من السجن، وتعود إلى بيتك ياولدي .. ؟ وعندما جرى القبض علىّ فى أحداث سبتمبر 81 فى القاهرة أمامها، نظرت إليها لأجد الدموع تنهمر من عينيها، وهى ترى الضباط يضعون «الكلابشات» فى يدى ويد شقيقى محمود، وعندما تكرر المشهد عام 2003، جاءت من قنا لتزورنى وشقيقى فى سجن مزرعة طرة، وساعتها قالت أمى: «كفاية ياولادى، أنا معدتش قادرة، أنا أموت فى اليوم ألف مرة». كانت أحلى الأيام، عندما تأتى لزيارتنا فى القاهرة، أيام قليلة وتغادر، أمضى معها باتجاه محطة الجيزة، لتركب القطار، أتأبط ذراعها، أشعر بالفخر وأنا أمضى إلى جوارها، وعندما يغادر القطار محطته متجها إلى مدينتى فى قنا، أشعر أن قلبى غادر جسدى، وراح يحيط بأمى، ويمضى معها إلى هناك.. لم أصدق أشقائى وهم يبلغوننى أنها غادرت الحياة الدنيا، وأن جسدها المسجى ينتظر الوصول، كانت الصدمة عنيفة، مضيت إلى هناك، وفى الصباح الباكر، رأيتها: وجه ملائكى مبتسم، هادئ وجميل، شعرت بالهدوء والسكينة، كتمت دموعى، التى سرعان ما انفجرت بينما الجسد الطاهر يدخل إلى الدار الآخرة، منذ هذه اللحظة شعرت باليتم .. ومنذ هذا الوقت أشعر أن بوصلتى قد غابت، افتقدت طعم الحياة، الذى كنت أتذوقه، وأشعر بحلاوته، منذ هذا الوقت أصبح قلبى مخطوفا، تائها، يبحث عن المستقر.. عندما أصل إلى بلدتى أذهب إلى قبرها أولاً، وبعد أن أقرأ لها الفاتحة لها ولأبى، أعود إلى المنزل، أشعر أنه بات خاويًا على عروشه، رغم تواجد الأبناء والأحفاد، هنا كانت تجلس، وهنا كانت تتناول معى الطعام، وهذا هو سرير نومها، وفى هذا الصالون كانت تجلس إلى جوارى، تضع يدها على رأسى، وتضمنى إلى صدرها الحنون .. أتأمل صورتها التى تزيّن صالة المنزل، ابتسامتها الساحرة تكاد تنطق أمامى، أشعر أنها تحدثنى، تنصحنى، تسألنى عن الزوجة والأولاد، تبعث برسائل عدة، وحتى عندما أخلد إلى النوم، أشعر أنها تتسلل إلى غرفتى لتشد الغطاء على جسدى. لم تكن أمى تؤمن أننى كبرت، وأننى تزوجت، وخلفت الأبناء، كانت تعاملنى كأننى طفل صغير، وهى المسئولة عنى، تظل نصائحها تطاردنى، وكان كل ذلك على قلبى «زى العسل» كما يقولون. فى عيد الأم، ابعث إليك برسالتى، اشتقت إليك يا أمى، إلى حنانك وكلماتك ونصائحك، إلى حضنك الدافئ، لا تبغين شيئا، ولا تطلبين شيئا.. أيها الملاك الذى يرقد أسفل التراب، أتذكرك، تعيشين بداخلى، صوتك لا يزال يدوى فى أذنىّ، وجهك الملائكى يسيطر على أحلامى، ومهما باعدتنا الأيام والأقدار، ستبقين بداخلى، أطهر حب، وأغلى قيمة، وأعظم التضحيات..