هرطقات حول جدوى مجرى قناة السويس الجديد، واصرار السيد الرئيس على أن تكون أولى بمحاولة صناعة مجد شخصى له بصفته الخديو الجديد، وتصيد لكلماته حول رفع الروح المعنوية للمصريين بهذا المشروع العملاق، وآخرون يترقبون الدخل السنوى للقناة بعد افتتاحها فى ثوبها الجديد. ودون استعراض لأرقام رسمية معلنة حول زيادة إيرادات القناة من عدمه. يجب أن نعود إلى أصل الرواية حتى نتفهم الأهمية الجيوستراتيجية لهذا المجرى الملاحى الدولى وهل فعلًا كنا فى احتياج لشق مجرى ملاحى موازٍ للمجرى القديم أم لا؟ وأعنى هنا بالأهمية الاستراتيجية مدى الاستفادة التى يمكن تحقيقها من دراسة الخواص الجغرافية للدولة وتأثيرها فى الجغرافيا العالمية، وانعكاساتها على الدولة من المنظور السياسى والاقتصادى، وتوظيفها بما يحقق مصالحها ويؤثر على علاقتها بالعالم الخارجى ويحدد نظرة هذا العالم الخارجى لها. وحتى نحدد بوصلتنا يجب أن نلقى نظرة أولًا على طبيعة الجغرافيا البرية والمائية الجديدة للعالم الخارجى والتى بدأت تشكل تحالفات تجارية واقتصادية ترسم طبيعة جيوسياسية لعالم متعدد الأقطاب بعد إعادة تشكيل موازين القوى العالمية فى غياب الأسد الأمريكى العجوز. (على القارىء أن يمسك بخريطة العالم أو يُشغل موقع ال جى بى اس للخرائط على هاتفه لتتبع باقى المقال). بعد إبرام الاتفاق النووى الإيرانى يوليو 2015 ومع رفع العقوبات الاقتصادية أصبحت إيران مؤهلة تمامًا كدولة مركزية لتشكيل تحالفات تجارية مع دول شنغهاى–البريكس، فقد عُقد فى العاصمة الآذرية «باكو» 9 أغسطس 2016 اجتماع على مستوى رؤساء دول روسيا-إيران-أذربيجان للاتفاق على إحياء اتفاقية مايو 2002 بين روسيا- الهند- إيرن، التى رسمت خارطة لمشروع ممر الشمال- الجنوب تربط شبكة نقل البضائع بين جنوب آسيا بشمال وغرب أوربا عبر طريق بطول 7200 كم، يمتد من مومباى الهندية بطول الساحل الغربى لبحر قزوين إلى روسيا مرورا بإيرانوأذربيجان ومنه إلى شمال وغرب أوربا ثم يدور دورته ليصل إلى الهند مجددا عبر قناة السويس التى تعود لترتبط بريًا بوسط آسيا وروسيا.(لاحظ هنا ان خط السير بقناة السويس اثناء رحلة العودة فقط). ممر الشمال- الجنوب بممراته البحرية والبرية ما زال قيد الدراسة إلا أن حجم البضائع التى عبرت الممر المائى عام 2015 زادت بنسبة 4.1% عن العام السابق. البضائع التى نُقلت من الهند إلى باكو الآذرية واستاراخان الروسية عبر ميناء بندر عباس جنوبإيران قلصت مدة النقل من 41 يومًا عبر قناة السويس إلى 14 يومًا عبر الممر وخفضت التكلفة بقيمة 2500 دولار لكل 15 طن بضائع. الممرات البرية تمثل الحلقات المفقودة لهذا الممر، والتى تلعب فيه إيران دورًا محوريًا عبر خطوط سكك حديدية تربط بين دول وسط آسيا بإيران، وأخرى تربط إيرانبروسيا عبر الأراضى الأذرية كالآتى: أولًا:- خط رشت–أستارا: وهو خط سكة حديد بطول 165 كم على طول الساحل الغربى لبحر قزوين يبدأ من مدينة رشت بشمال غرب إيران على بحر قزوين وينتهى عند أستارا آخر مدن الشمال الإيرانى على بحر قزوين مشتركة الحدود مع أذربيجان، بإتمام هذا المشروع عام 2015 تم الربط البرى بين سكك حديد روسيابإيران مرورا بأذربيجان لتسهيل التبادل التجارى ونقل البضائع بين جنوب آسيا إلى أوربا. ثانيًا:- خط كازاخستان- تركمانستان- إيران: خط سكة حديد بطول 677كم حول بحر قزوين، يربط مدينة أوزين جنوب غرب كازاخستان بطول 137كم (وتم الانتهاء منه فى مايو 2013)، بمدينة بركات شمال غرب تركمانستان بطول 470 كم، لينتهى فى مدينة جرجان شمال شرق إيران بطول 70كم. الخط بتمويل حكومى مشترك، ويشق طريقه حتى منطقة الخليج العربي. ثالثًا:- خط أرمينيا- إيران: وهوخط سكة حديد بطول 316 كم بتكلفة 3.5 مليار دولار بين جنوبأرمينياوإيران وقد بدأ العمل فيه يوليو 2012، ودخلت روسيا باستثمارات 15 مليار روبيل لتطوير خطوط السكك الحديدية بأرمينيا ليربط هذا الطريق موانئ البحر الأسود بموانئ الخليج العربى ويعد أقصر الطرق لنقل البضائع بين جنوب أوربا والخليج العربى (طريق يشكل خطرًا داهمًا على قناة السويس لاحقًا). لم تكتف إيران بتوصيل الحلقات المفقودة لهذا الممر فقط بل عملت على التوازى فى إنشاء وتطوير موانيها على بحر قزوين والخليج العربى لدمجها بخطط طويلة الأجل بالممرالمزعوم، إذ قامت الهند بالحصول على امتياز تطوير ميناء تشابهار على بحر العرب وفق اتفاقية 2002 ورغم تحذير واشنطن لها بعدم تنفيذ الاتفاقية قبل إبرام الاتفاق النووى مع إيران فإن الهند ضربت بهذه التحذيرات عرض الحائط وبدأت فعليًا فى تطوير الميناء وهناك خطط توسعية لرفع قدرات الميناء لاستقبال البضائع من 2.5 : 12.5 مليون طن وتطمح الهند فى الربط مع أوربا عبر هذا الميناء الذى يخفف الضغط عن ميناء بندر عباس على الخليج العربي. كما دشنت إيران ميناء أستارا الجديد على الجنوب الغربى لبحر قزوين بتكلفة 22 مليون دولار مارس 2013 وتسعى لزيادة قدراته الاستيعابية اليوم من 600 ألف إلى 3 ملايين طن. أعلن الرئيس الصينى فى يونيو 2013 عن الحزام الاقتصادى وطريق الحرير وقد ظن البعض انه احياء لطريق الحرير القديم وأكاد أجزم بعد دراسات متعمقة اننا امام سيطرة آسيوية على رقعة الاوراسيا التى اشار لها بريجينسكى فى كتابه الصادر عام 99 بعنوان رقعة االشطرنج الكبرى، من يسيطر عليها يهيمن على العالم بأسره. ولكن من البرجماتية الصينية ان تعلن عن الحزام والطريق. وها هو أول قطار صينى عابر للقارات ينطلق يوم 31ديسمبر 2016 ليصل بعد 18 يوم إلى بريطانيا كأول قطار بضائع يربط بين رقعة الآوراسيا مباشرة بعد ان قطع مسافة 12 الف كم. منطلقًا من جنوب العاصمة بكين ليعبر فى كازاخستان وروسيا وبيلا روسيا ثم إلى بولاندا والمانيا وبلجيكا وفرنسا قبل ان يعبر نفق المانش إلى شرق لندن. إيران التى تعد أحد أضلاع المثلث الذهبى للحزام والطريق مع روسيا والصين أصبحت الآن دولة مركزية تسعى كافة دول العالم لاستعادة علاقاتها التجارية معها، فيما تسعى موسكو لإقناع بكين بانضمام طهران بمنظمة شنغهاى التى ستحكم العالم قريبًا، وتبدو أنقرة عازمة على الجنوح لهذه التكتلات الآسيوية. إذن فبينما كان بعض المصريين يدشنون لثورتهم الميمونة، ويتقاتلون فى الشوارع، ويحرقون، ويسعون لهدم هذه الدولة وتعطيل مسيرتها. كانت إيران عبر هذه السنوات الخمس تسعى لتغيير نظرة العالم الخارجى لها. وحينما جاء السيسى على سُدة الحكم فى يونيو 2014 كان امامه تحديات جسام لإنقاذ شيخوخة قناة السويس فى مواجهة الحزام والطريق، وعليه الآن إعادة إحياء هذا المجرى الملاحى ليستمر داخل حلبة المنافسة بحيوية، حتى يُجبر العالم على نظرة أكثر واقعية فى هذه المنافسة الشرسة. فكان ما أطلق عليه المفرضون التفريعة الجديدة للاستهانة بالإنجاز، وكانت المنطقة اللوجيستية على ضفاف القناة بمصانعها وخدماتها فى إصلاح السفن العابرة والتعامل معها بمثابة الإعلان عن قوى ملاحية ناشئة تستطيع ان تجذب العابرون للقارات إليها بما ستقدمه من خدمات غير متوفرة فى الممرات البحرية والبرية السابق ذكرها. الأمر الذى يفسر لنا أيضًا سر التوجه السريع لتطوير الموانئ المصرية وزيادة قدرتها الاستيعابية على استقبال البضائع ولماذا حرص السيسى منذ قدومه على تأسيس شبكة طرق وكبارى جديدة بطول 7000كم تربط كل هذه الموانئ ببعضها وتصل لحدود السودان. هذا أصل الرواية ولا يمكن اختزالها فى زيادة إيرادات القناة أو انخفاضها أو اختزال تطوير الموانىء باستعراض سيساوى يبحث عن مجد شخصى، أو حتى اختزال شبكة الطرق الجديدة فى محاولة جذب الاستثمار. فالرواية فرضت على السيد الرئيس تحديًا كبيرًا فى وقت تتسابق فيه الألسنة الهاترة على فراش الجهل لتنال من قائد هذه المعركة. كاتب جيوسياسي