فى الوقت الذى تحقق فيه أحزاب اليسار فى فرنسا تراجعًا، وذلك بعد إعلان الرئيس الحالى فرانسوا هولاند عدم ترشحه لولاية ثانية مما سمح لقيادات ضعيفة من وزرائه السابقين بإعلان نيتهم لخوض الانتخابات التمهيدية عن اليسار الفرنسى الأمر الذى أضعف اليسار برمته فإنه وعلى العكس من ذلك تحقق الأحزاب اليمينية شعبية كبيرة ليس داخل فرنسا فحسب بل فى الكثير من البلدان الأوربية وأمريكا، وهى بلدان تحركها متغيرات سياسية وأمنية واجتماعية تتعلق بالخوف على الهوية والتصدى لمشكلة الإرهاب والهجرة وأسلمة الغرب وغيرها من الأفكار والشعارات التى تدعو للرجوع للقوميات والانغلاق على الذات، ودليل ذلك هو صعود الكثير من القيادات اليمينية والمحافظة فى تلك البلدان ومنها وصول مرشح اليمين الوسط الفرنسى فرانسوا فيون لخوض الانتخابات الرئاسية فى شهر إبريل من العام الجارى 2017 مع مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين عن حزب الجبهة الوطنية. فبعد نجاح تجربة أحزاب اليمين الفرنسى فى الانتخابات التمهيدية فى نوفمبر الماضى فإن أحزاب اليسار الفرنسى تخوض تجربة الانتخابات التمهيدية الآن، فبعد نتائج الجولة الأولى التى جرت الأحد الماضى 22 يناير ووصول كل من المرشح بنوا هامون وزير التعليم السابق، ومانويل فالس رئيس الوزراء الفرنسى السابق تجرى الآن الجولة الثانية لحسم وصول أحدهما لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، فمن خلال المناظرة التليفزيونية الأخيرة التى جرت بين المرشحين الأسبوع الماضى تمكن المرشح هامون من تحقيق نقاط على خصمه إيمانويل فالس بعد أن سبق وتفوق عليه فى الجولة الأولى بخمس نقاط من إجمالى نسبة التصويت، ومن ذلك هو قيامه فى حالة فوزه بالرئاسة تقديم منحة للعاطلين عن العمل، كما أن الجدل قد احتدم بينهما خلال المناظرة حول القضايا الهامة كالإسلام والعلمانية بفرنسا، وقد رأى هامون أن علمانية الدولة الفرنسية تكمن فى حفاظها على الحريات الفردية لكل المواطنين دون تفرقة بين لون أو جنس أو عرق أو دين، وأنه وفق رأيه لابد من التصدى لكل أشكال التفرقة، إلا أن المرشحان اتفقا معا حول قضايا مكافحة الإرهاب وأيضا عن هؤلاء العائدين من الحرب فى سوريا والعراق وغيرها وما يشكلوه من تهديد على أمن البلاد، وخلال استطلاعات الرأى الأخيرة فإن المرشح بنوا هامون قد حقق فارق كبير فى نسبة شعبيته على نظيره مانويل فالس الساعى إلى تخطى الانتخابات التمهيدية عن الحزب الاشتراكى والفوز بإدارة البلاد. ووسط تلك العاصفة التى تضرب صفوف أحزاب اليسار يرى المحللون بفرنسا إمكانية كبيرة أمام وصول كلا من مرشح اليمين المحافظ فرانسوا فيون ومارين لوبين من الجبهة الوطنية لخوض الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية فى إبريل القادم، وبما يعنى خروج مرشح اليسار من الجولة الأولى، ورغم هذا التصدع وهذا التراجع فى شعبية أحزاب اليسار الفرنسى فمازالت بعض من قياداته تأمل فى إمكانية الوصول للدور الثانى من الانتخابات الرئاسية، وهنا يكمن السؤال الذى مفاده هو من يكون هذا المرشح القادر على تحقيق ذلك ؟ فمن خلال الواقع والمشهد السياسى الحالى لا توجد تلك الشخصية القوية القادرة على تحقيق ذلك وبالتالى صعوبة وصول أحد مرشحى اليسار من المتقدمين للجولة الثانية، فبعد أن ظل الحزب الاشتراكى وعبر عقود طويلة يقود القاطرة السياسية والرئاسية وإدارة شئون فرنسا ها هو يتراجع الآن وتتقلص وعلى نحو غير مسبوق فرصه فى التأهل للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وذلك بعد كل تلك الأزمات التى تعرض لها والتى دفعت برئيس البلاد الحالى إعلان عدم نيته للترشح لأسباب تآمرية وقعت عليه من داخل حزبه وحكومته، ومن آخر وأهم تلك الأزمات هو أن المرشح الذى سيفوز بالانتخابات التمهيدية سواء كان هامون أو فالس سيجد نفسه فى الانتخابات الرئاسية أمام مرشحين مستقلين محسوبان على اليسار الفرنسى ويملك كل منهما رؤية عصرية تعجب الكثير من الناخبين الفرنسيين ولهذا يملكان شعبية كبيرة ويعمل لهما ألف حساب الأول إيمانويل ماكرون مؤسس حزب إلى الأمام، والثانى جاك لوك ميلنشون زعيم حركة فرنسا العصية، وكلا المرشحين يثق فى قدرته على لم شمل اليسار وتمكنه من الوصول للجولة الثانية من الرئاسيات، ويدعوان لذلك إلى التفاف قادة ومناصرى اليسار من حولهما وعدم الالتفات لمرشحى اليسار التقليدى، وهذا معناه تشتت أصوات اليسار وذهابها لصالح اليمين المتمثل فى فرانسوا فيون، ومارين لوبين، ولهذا يرى المحللون والسياسيون الفرنسيون استحالة وصول أحد مرشحى اليسار الثلاثة للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المقبلة لأن الواقع السياسى والاجتماعى والاقتصادى يقول أن قاطرة اليسار الفرنسى ترجع للخلف وأن وصول أحد مرشحيه للجولة الثانية من الرئاسيات تتطلب معجزة أو مفاجئة على غرار مفاجئات الانتخابات الأمريكية والبيركست فى إنجلترا.