بين الحين والآخر تخرج علينا ذات الوجوه، تفتعل الأزمات، تسعى إلى استغلال الأحداث، تتصيد المواقف، وتعيد تفسيرها، ومنهجها، وتدفع بها إلى الشارع المحتقن، الغاضب، بفعل الأوضاع التى تعيشها البلاد.. منذ الخامس والعشرين من يناير، بدأوا الخطة المحكمة، محاولة اسقاط الدولة، لم يكن الهدف هو تغيير النظام، أو إحداث الإصلاح الشامل فى البلاد، وإنما اسقاط المؤسسات، الواحدة تلو الأخرى، لتصبح مصر ساحة مستباحة للميليشيات، وعناصر التطرف والإرهاب، انتهاء بمخطط التقسيم.. ولا يخفى على أحد أن أمريكا وحلفاءها لم يترددوا فى إعلان مخططهم الشرق أوسطى الجديد، لكنهم قرروا ومنذ العام 2004، تنحية الحلول العسكرية المباشرة جانبًا، وبدء حروب الجيل الرابع التى تستهدف تفجير المجتمعات من الداخل، عبر آليات متعددة، الإعلام، منظمات المجتمع المدنى المرتبطة بالغرب، وبعض القوى الأخرى.. تدفق المال السياسى إلى داخل البلاد، وكشفت لجنة تقصى الحقائق المشكلة بقرار من د. عصام شرف رئيس الوزراء فى هذا الوقت عن أن قيمة ما تم صرفه على مليونيات الفوضى التى كانت ترفع شعار «يسقط حكم العسكر» فى الفترة من فبراير إلي نوفمبر 2011 فقط، بلغ مليارا ومائتى مليون جنيه. لم تتوقف الحرب، بل اتخذت أساليب ووجوها جديدة، ظهر التحالف الإخوانى مع هذه المجموعات الأناركية والفوضوية، كان الاتفاق بينهما يهدف إلى تفكيك الدولة وهدمها من الأساس، كل له أسبابه ومبرراته.. ولم يكن الغرب ومنظماته واستخباراته بعيدا عن هذا المخطط، بل فرض حماية لعناصره وأفراده، وتم توجيه التهديدات إلى الدولة المصرية أكثر من مرة، وبشكل علنى، بعدم المساس بهذه العناصر والتوقف عن ملاحقتها أيا كانت جرائمها. وأسبغت هذه القوى حماية مطلقة على جماعة الإخوان، ورفضت إدانة تصرفاتها وجرائمها واقصاءها للآخرين فى زمن تولى الجماعة لشئون الحكم فى البلاد، وكان الهدف هو تحقيق المزيد من الانقسام المجتمعى الذي حتما كان سيقود إلى تحقيق ذات الهدف، وهو التجزئة والتفتيت. ولولا تدخل الجيش المصرى فى أعقاب الثورة الظافرة فى 30 يونيو 2013، لتمكن هؤلاء من تحقيق الهدف، واشعال الحرب الأهلية على الساحة المصرية، التى كانت حتما ستحدث الانقسام. لقد أدرك الغرب وحلفاؤه أن بقاء الجيش المصرى قويا، موحدًا، من شأنه أن يظل محافظًا على كيان الدولة ووحدتها، ويتلافى كل عوامل الانقسام على أرضها، فبدأت الحملات تركز على هذا الجيش العظيم، ومحاولة تشويهه، من خلال بدء أكبر حملة للتشكيك فيه. وبعد أن فشلت كافة ادعاءاتهم السابقة لجأوا إلى إطلاق شائعة تقول إن القوات المسلحة تهيمن وتسيطر على نحو 20 ٪ من الاقتصاد القومى للبلاد، مما دعا الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الرد على هذه الحملات المغرضة بقوله إن نسبة اقتصاديات الجيش لا تزيد على 1.5 ٪ من مجمل الاقتصاد القومى، ناهيك عن أنه يشارك ويساهم من فائض ميزانيته العامة في العديد من المشروعات القومية والاستراتيجية بالاضافة إلى تسليح القوات بأحدث الأسلحة التى تمكنها من مواجهة التحديات وحماية الأمن القومى. ومع إدراك الشعب المصرى لحقيقة الدور التنموى الذى يقوم به الجيش إلى جانب دوره العسكرى، فى انقاذ البلاد من الأزمات والكوارث، كان الفشل هو المصير الحتمى لمثل هذه الادعاءات المزيفة التى استخدمت فيها كل أنواع الحروب المغرضة والشائعات الكاذبة. وعندما وقعت مصر اتفاقية تعيين الحدود البحرية بينها وبين المملكة العربية السعودية، بدأت الحرب تأخذ بعدًا جديدًا، وهو التشكيك فى الجيش المصرى، ورئيس الدولة وكافة المؤسسات الأخرى، عبر شن أكبر حملة من الأكاذيب والادعاءات حول ما اسموه بالتفريط والتنازل عن أراض مصرية فى «تيران وصنافير». وبالرغم من أن الرئيس عبدالفتاح السيسى دعا إلى عقد لقاء خاص فى 13 ابريل من العام الماضى، بحضور كبار المسئولين وأساتذة القانون الدولى، وفئات مجتمعية عديدة، تم خلاله توضيح الحقائق الدامغة، مستندة إلى الوثائق والحقائق التاريخية والقانونية والجغرافية، إلا أن البعض استغل الحس الوطنى لدى المصريين، وراح يشكك فى كل شىء. وبين يوم وليلة انقسم الشارع المصرى، بين أغلبية تؤكد ثقتها فى مواقف الرئيس ومؤسسات الدولة المصرية وفى مقدمتها جيش مصر العظيم، وبين آخرين راحوا يرددون ذات الأقاويل بحسن نية، سببها عدم التمهيد وعدم التوضيح الكافى أمام هجمة إعلامية وحرب ضروس تخوضها بعض العناصر المعروفة سلفا بمواقفها المعادية للقيادة ولمؤسسات الدولة المصرية. وتحول الأمر إلى حرب ارهاب فكرى ضد كل من يتحدث حديث القانون والمستندات والوثائق التاريخية، فما أسهل اثارة المشاعر الوطنية، لتغطى على الحقائق وتجعل الشائعات والأكاذيب عناوين هامة يجب التعامل بها والاستناد إليها فى المخاطبة والتشكيك من خلالها فى كل شىء. لم يكن الهدف لدى البعض هو تبيان الحقيقة، ولكن التشكيك فى كل شىء، لقد جاءتهم الفرصة سانحة، ووجب استغلالها فى إطلاق أكبر حملة تستهدف الرئيس والجيش المصرى العظيم، من خلال السعى إلى حسم الأمر سريعًا وبدء التحركات الجماهيرية، حتى قبل أن يحسم القضاء كلمته. لقد استغل البعض حكما أوليا صدر عن القضاء، بالرغم من عدم الاختصاص وراح يصور الأمر وكأن الدولة المصرية فرطت فى التراب الوطنى دون سند أو دليل. ولم تتوقف الحملة عند هذا الحد، بل راحت تقسم النخبة المصرية إلى وطنيين وغير وطنيين، فى محاولة مستميته لإحداث الانقسام داخل كافة المؤسسات المصرية، والهدف معروف ولا يخفى على أحد. وحتى قبيل أن يحسم البرلمان وهو صاحب الاختصاص الدستورى الأصيل فى نظر الاتفاقيات والمعاهدات تخرج المجموعة «إياها» لتدعو إلى مظاهرات تتوجه إلى مجلس الوزراء وإلى مجلس النواب، فى إطار مخطط يشمل التحضير في خطوة تالية لمظاهرة كبرى فى 25 يناير أو ما بعده. ويبدو أن الاتفاق الخفى بين هذه المجموعة وجماعة الإخوان أثمر عن تراجع الإخوان فى الظهور علانية فى هذه القضية، والتحرك من خلف ستار، بالضبط كما حدث فى 25 يناير 2011، ثم يجرى الانقضاض بعد ذلك، وتصبح اللعبة كلها فى يد الإخوان.. وينسى هؤلاء أن الأمر بات مختلفا هذه المرة، وأن الشعب المصرى لم تعد تنطلى عليه مثل هذه الادعاءات، وأن الوجوه التى تدعو لعودة الفوضى من جديد، ولكن هذه المرة بادعاء التفريط فى أرض الوطن هى نفسها الوجوه التى كانت على رأس تظاهرات الفوضى التى استهدفت الجيش والدولة فى أوقات سابقة. وهؤلاء بالقطع لم يتعلموا من دروس الماضى حتى وإن حاولوا استخدام كل آليات الفوضى، إلا أن رهانهم هذه المرة، هو السعى إلى الاثارة، واستغلال الأكاذيب وتوظيفها لمصلحة الدعوة إلى الفوضى، قبل أن يقول البرلمان كلمته، ويفتح باب النقاش للخبراء والمتخصصين، الذين حتما سيوضحون كافة الحقائق علانية وعلى الهواء مباشرة. إن التفريط فى الأرض أخطر من التفريط فى العرض، تلك حقيقة تعيش فى «جينات» الشعب المصرى، فما بالك بجيشه العظيم، يجب أن يتوقف العابثون عن حروب الاثارة وتهييج الجماهير، وأن يكفوا عن آلاعيبهم، وأن يتركوا المؤسسات المعنية تمارس عملها فى إطار القانون والدستور. أما الذين وجدوا فى هذه الاتفاقية، فرصة لعودتهم إلى الشارع الذى لفظهم، أو فرصة لتنفيذ أجندتهم ومخططاتهم، فالرد حتما سيكون حاسما، وفي أقرب وقت ممكن، وساعتها سيرد عليهم الشعب بنفسه.